زجاجٌ عازل يمنع والدته من عناقه وهي تراه مُبتسماً غير مستسلم لمعاناته وراء القضبان، يبدو من خلفه وكأن "هموم الدنيا فوق رأسه"، ولكن عندما يلمح طيفها يمسح عينيه الغائرتين ويضحك لها كأن شيئًا لم يحدث، ورغم أنه لم يبلغ من العمر ما يجعله في مصاف الرجال إلا أن شخصيته القوية واتزانه صنعا منه رجلاً يقوى على هزم السجان.. هو الطفل المقدسي "معاوية علقم" (16 عامًا) الذي اعتقله الاحتلال قبل عامين، وحكم عليه بالسجن مدة ست سنوات ونصف السنة..
"فلسطين" تحدّثت مع والدته "هالة علي" لتتعرف على بعض تفاصيل المعاناة منذ اعتقاله..
رائحة طفلها
بألم وخوف تفّكر الأم بحال صغيرها الذي اعتادت على هدوئه في المنزل رغم قوة شخصيته، وهي على يقين بأن كل ادعاءات الاحتلال بمحاولة ابنها تنفيذ عملية طعن كاذبة، فذلك الصغير لا يقوى على اقتحام مجموعة من الجنود المحملين بأسلحة مختلفة.
بعد عامين على غياب معاوية، لا تزال والدته تطالب المؤسسات الحقوقية والمعنية بالأطفال بالإفراج عنه، كيف لا وعذاب الشوق يقتلها كل يوم وليلة، ولا تستطيع حتى عناقه أو حتى شم رائحته كما كانت تفعل عندما كان حُراً طليقاً..
تقول هالة، والدة معاوية لـ"فلسطين": "لا أتمكن من زيارته سوى مرة واحدة كل أسبوعين، حتى أنني لا أستطيع الحديث معه عبر الهاتف للاطمئنان على صحته".
وتضيف: "في كل مرة، أحمل معي ملابس خاصة له كي تدفئه من برد الشتاء، ولكنني لمنزلي أعود محملة بنفس الملابس، فالاحتلال يمنع دخولها، طلب مني عدة مرات شراء حذاء ولكنه ثمنه في الكنتينا يزيد عن 600 شيكل".
وتتابع والشوق يظهر جليا في نبرة صوتها: "معاوية يحتاج ما يزيد عن 1600 شيكل شهرياً كي يشتري طعاما وملابس خاصة من الكنتين، في كل مرة يطلب مني إدخال كتاب أو أدوات خاصة به ولكن يرفض السجن إدخالها".
على الرغم من مرور عامين على اعتقال معاوية، إلا أنه لا يستطيع التأقلم حتى الآن مع الأسر، بحسب والدته، فهي ترى في ابتسامته الظاهرة ألف انكسار داخلي بسبب القيود المفروضة عليه.
وتوضح: "حتى الآن، يعاني ابني من ضعف في النظر نتيجة الضرب المبرح على وجهه أثناء التحقيق، والآن يرتدي نظارة طبية".
إضافة إلى الست سنوات ونصف السنة التي حوكم بها الطفل معاوية، أُجبرت عائلته على دفع غرامة مالية تزيد عن 26 ألف شيكل.
صورة معاوية
في بعض الأحيان لا تستطيع والدة معاوية زيارته بسبب مرضها، فقدت أجرت ثلاث عمليات جراحية بعد اعتقاله، إلا أنها عندما تزوره ويسألها عن سبب تأخرها عنه تعلل الأمر بانشغالها بشؤون إخوته، حتى لا يقلق عليها.
وعلى الرغم من الصعوبات التي يواجهها معاوية في السجن بشكل يومي وعدم تأقلمه مع الوضع، إلا أن قدرته على حل المسائل الحسابية بسهولة وتفوقه في الرياضيات دفعاه للعمل كمحاسب في "الكنتين" لأمانته وأسلوبه الراقي في التعامل مع الأسرى القاصرين داخل السجن.
وتقول الأم المشتاقة: "قبل شهرين، أخبرني السجانون أنهم سيلتقطون صورة لي مع معاوية، كل ما كنت أفكر فيه حينها أنني سأتجاوز الحاجز الزجاجي الذي يحول بيني وبين ابني في كل زيارة، وأنني سأتمكن من عناقه ومن شم رائحته والحديث معه وجهاً لوجه، ورغم أن اللقاء لم يتجاوز سوى لحظات التقاط الصورة، إلا أنه كان دافئا، أزال عني برودة هذا الشتاء كلها".
وتضيف: "عانقته وبشدة وقبلته وبكيت طويلاً، ولشدة تأثري بالموقف لم أتمكن من زيارته لمدة طويلة".
في كل مرة تزور فيها "هالة" ابنها ترى أمًا جديدة جاءت لزيارة ابنها للمرة الأولى، فتلمح فيها ذلك الوجع الذي شعرت به في زيارتها الأولى صغيرها، وتبكي من كل قلبها على مشاهد ستكرر اليوم وغداً وبعد غد إلى أن تنتهي معاناتنا مع هذا الاحتلال.