شبابٌ مثقّفٌ عاشقٌ للأدبِ والفن جمعهم شغفُهم في دائرةٍ يحيطُها النور والصُّوَر، ويتوسّطها جهاز بيانو في انتظار من يضرب على الوَتر..
كما لو أنهم "حكاية" جميلة تسردها جدتي ذات الجديلتين البيضاوين على مسامعي في ليلةٍ ماطرة، أو "معزوفة" من الماضي أصمتُ بشوقٍ كي أستعيد بها حلاوة أيامٍ عابرة، أو شمعة كبيرة تنثر وهجها لتنير غزّة التي تتخبّط وسط العتمة.
"مجدٌ" يقرأ مقطعاً من رواية جرعات السخرية فيها زيادة، بسبب تردّي الوضع الثقافي في العالم، كانت بعنوان "هيّا نشترِ شاعراً"، و"هدى" من بعده تقرأ خاطرتها "وهمٌ حقيقيّ" التي تتخللها الأشباح والذئاب والآلام، فيما تعلّق عليها "هندٌ" بأن "البؤس والقسوة تملؤها يا هدى.. فالحياة فيها جوانب حلوة يا صديقتي، تبتسم هدى التي وضعت لنفسها تحدّي هذا العام بأن تقرأ مائتي كتاب، وترد: "بالطبع، لكنه جزء من الحياة كتبتُه كتجربة وأردت تسليط الضوء عليه".
روح شبابيّة
"شغف" هي مبادرةٌ بروحٍ شبابيةٍ أسّسها الكاتب والقاصّ يُسري الغول لتحتضن الشباب اليافعين الذين برزت أعمالهم الإبداعية مؤخراً، حيث أوضح لفلسطين أن "شغف" تأتي في ظلّ الواقع السيئ الذي يعيشه الغزيّ جرّاء الانقسام الذي تعانيه المؤسسة الثقافية وباقي المؤسسات.
ويقول: "نريد في تلك المبادرة أن ندمج الشباب من كل الأطياف والرّؤَى، بعيداً عن أي فكرٍ أو أيديولوجيا، وذلك من أجل إيقاد الفكر والوعي وتوجيهه نحو اتجاهٍ أوحدٍ وهو خدمة فلسطين والدفاع عن الوطن والقضية".
يضيف: "فلسطين لن تتحرّر بدون وعيِ شبابِها وأقلامهم وثقافتهم، فتلك هي أحد أهم مقومات خدمة فلسطين والدفاع عنها".
للثقافة فقط
رغم كثرة التجمعات الأدبية في قطاع غزّة مقارنةً بعدد المهتمّين بالكتّاب والشعراء، من صالونات ثقافية، إلى مبادرات شبابية، وغيرها، لكن هل تنجح هذه التّجمّعات؟ أوضح الشاب مجد أبو عامر أن "الإجابة تكون بالنفي غالباً وذلك إما لعدم وجود هدف أساسي لتكوّن الفريق، أو لغياب الغطاء المالي، أو للأنانية في الظهور الإعلامي المحض، من خلال هذه المنابر، وهذا ما يحدث عادة".
طيب، ما الذي يجعل شغف مختلفًا؟ يقول مجد القارئ والكاتب المميز: "مُذ أن دعاني الصديق القاص يسري الغول، أن أكون معه في إدارة هذه المبادرة، وبعد اختيارنا لأعضاء الفريق معًا، وأنا أحسُّ أن هناك ما هو مغاير، لا بسبب التنوع الثقافي والفكري المتباين بين أعضاء الفريق، ولا بسبب الرقع الجغرافية المحلية المختلفة التي ينتمي إليها كلٌ منّا، بل لأنّ ما يجمعنا ليس العلاقات ولا الصداقة، فأعضاء الفريق بالكادِ يعرفون بعضهم، إنما الثقافة فقط، من أجل الاستفادة على مستوى الدائرة الصغيرة، في الوقت الحالي، ومن ثمّ توسيع نطاق العمل للتوعية المجتمعية، الفكرية بأهمية الأدب والثقافة، ومختلف الفنون".
"العالَم" نتاج الثقافة
لهذا كان أول كتاب اختاره مجد للنقاش مع فريق شغف، هو "هيّا نشترِ شاعرًا" للبرتغالي "أفونسو كروش"، تلك الرواية التي يبرز فيها كيف أن الشاعر، لا يأخذ حقه، "فكل ما نراه، ليست أشياء ولدت معنا، لكنها ولدت من الخيال، من الأفكار، فالعالم الذي يحيط بنا، هو نتاج الثقافة"، هكذا يجيب أفونسو كروش، عن سؤال فائدة الشعر، يضيف مجد.
القدم الثالثة
ويرى مجد أن لقاء "شغف" نجح فعلًا، في فتحِ آفاق للتعارف الفكري، والنقاشات المختلفة في الروايات والشعر والفلسفة، ليكون بهذا حجر الأساس لمشروعٍ ثقافي أكبر من مبادرة.
ويعبر: "أطمع في هذا التجمع أن ننجح في خلقِ جيل جديد، مثقف وواعٍ، ليقدر على الاستمرار، ونشر رسالة السلام والكلمة، لأنه في البدءِ كانت الكلمة، وحين نشعرُ أننا وصلنا ذلك المشهد، حتمًا سننسحب؛ حتى نترك المقاعد لغيرنا، لتمرّ المبادرة وتقود نفسه، فعتبات السّلم تصير هواءً، لكنه الشغف، قدمك الثالثة".
وكان قد تخلّل لقاء "شغف" قراءات شعرية للشاعرة هند جودة من ديوانها "لا سكّر في المدينة"، ثم عرضت ميسرة أبو شعيب قراءة في كتاب "جماليات المكان" للفيلسوف الفرنسي الظاهري غاستون باشلار، واستطردت في عالم الأعشاش والقواقع، والانحناءات المؤنثة، والأركان الذكوريّة، لتوصلنا إلى مفهوم المنزل الحقيقي.
آفاق تتفتّح
وهنا كان لميسرة أبو شعيب رأيا تقوله لـ"فلسطين": "حين علمت عبر المؤسس يسري أن هناك مجموعة شبابية تهتم بالأدب والثقافة بطاقات هائلة وأرواح شغوفة تنتعش بالخيال عبر قصص وروايات أو مقاطع شعرية ملهمة ومحفزة لحواسنا، فرحت للغاية وشعرتُ أن آفاقاً أمامي ستُفتَح".
وتضيف: "ثم حين علمت أننا سنتناقش في رواية (هيا نشترِ شاعراً) انتظرت النهار بفارغ الصبر كيف يطلع لأشتريها، فأنا أحب القراءة الورقية أكثر من الإلكترونية".
وتتابع: "قرأت الكتاب فتفتحت آفاق عقلي حيث الزوايا الغريبة اليت تطرق إيلها، إنها ممتعة ومستفزة جعلتني أحبّها وأغوص فيها بشغف".
وتعبر ميسرة عن الأجواء التي سادت لقاء "شغف" بأن نسب هرمون الأدرينالين للشخوص الموجودة بالقاعة كانت مرتفعة لأعلى مستوى، "فيما الملهم الرئيس، وتقصد يُسري، كان داعماً برأيه وخفة ظله وليس أستاذاً آمراً ناهياً".
وتبتسم :"عائلة (شغف) عائلة علم وثقافة، دفء ومرح ومحبة، إنها بيئة خصبة وداعمة في شتى المجالات، أنا على يقين بأن شغف ستُنتِج إبداعاً وتميزاً ونجاحاتٍ كثيرة".
التقاء الأفكار
أما هند جودة فتعبر لـ"فلسطين" بالقول: "شغف هو حالة نعيشها ككتاب وقراء نهمين نبحث عن مكان حقيقي يجمعنا بمن يعيشون على الكتب ومن أجلها، وبالتالي على الأفكار تجديدا وتطويرا واستزادة".
وتضيف: "من الجميل أن يجد الكاتب مساحة تجمعه بالكتاب الآخرين وأن يجد القارئ مكانا يناقش فيه الكتب التي أثارته وأضافت له أو استفزته ناقلا فائدته إلى المجموعة وأن يرى الأفكار وهي تتلاقح بين عدة عقول ومن اتجاهات مختلفة او متشابهة لرؤيته".
وعن الفائدة التي ترجوها هند وتتطلع للحصول عليها، فهي تحقيق المتعة والفائدة على المستوى الشخصي، وعلى المستوى العام حيث تطمح مع الشباب المثقف إلى توسيع بقعة الضوء وتثبيت حضور المثقف عبر فعاليات سيتم الدعوة للعمل عليها.
وتوضح هند: "غزة تقرأ وتكتب وتفكر بصوت مرتفع ولا تقبل بصبغة الخراب والجهل وإن كانت تبدو فقيرة وشاحبة، لكنها عودتنا في كل مرة على النضج والتطور في المستوى الثقافي سواء كان أدبيا أو موسيقيا او تشكيليا".
أما قاعة اللقاء حيث معرض الفنانة الشابة مي مراد في المركز الفرنسي وكل ما فيه من لوحات تعبيرية تجسد حالة النضج الثقافي الذي نلمسه ونعيشه ونؤكد عليه ونزيده وضوحا عبر خطوة جميلة وواعدة مثل مبادرة شغف، والحديث لهند.
الاهتمام بالعقل
وللشابة غادة القصاص كلمة حيث رأت فيها أن شغف ليس مجرد لقاء عادي يجتمع فيه الشباب ثم يرحلون بعد ساعة أو ساعتين، شغف بنظرها "ليس عاديًا بتاتًا وأولئك الأشخاص الجالسين على الكراسي في فمِ كلٍ منهم قصيدة أو كلمة تحاول أن تخرج إلى الفضاء فوجدت في شغف مرادها، شغف جعلنا ندرك اليوم كم نحنُ بحاجة إلى أن نهتم بعقولنا وبثقافتنا كما نهتم بأشكالنا وبنوع الطعام الذي نأكله" تقول غادة.
وتضيف: "شغف أتاح لنا الفرصة بأن نعبر عن ذواتنا وأن نتناقش في قضايا الكتابة والثقافة والشعر والجنون لنكونَ أكثر تأثيرًا على المجتمع، شغف أتاح للصمت الذي بداخلنا أن ينطق وأن يقول للعالم أنا موهوب وموهبتي الكتابة وأنا أفتخر بذلك".
وتتابع: "شغف سيكبر ونكبر نحنُ معه لنصنع بدايات جديدة وأفكار تستحق أن ترى النور ومن شغف سيبدأ التغيير نحو الأفضل".
الخيال يحلق
فيما الشاب عامر المصري يرى الإبداع في "شغف"، ويقول: "نحاول من خلالها أن نظهر كما لم نظهر من قبل، نترك الحرية للخيال كي يحلق في سماء الكتب والثقافة، أتوقع أن تكون تجربة مميزة ومختلفة لأنها تحتوي على مجموعة مميزة من الكتّاب والمثقفين".
ويضيف: "اللقاء كان جميلا، أعجبتني جدا النقاشات التي تمت، أشعرتني بأني داخل كتاب، أتجول بين الكلمات، وأتنقل بين الجمل والحروف، وأطمح أن أستفيد من الآخرين، أن أطور من نفسي ككاتب يسعى للتقدم، أن تزيد معلوماتي وثقافتي".
وكان عامر قد كتب كثيرًا، وحصل على العديد من الجوائز الأدبية، كان آخرها المركز الأول بمسابقة "عبد الكريم الكرمي" بالضفة الغربية، ويقرأ عامر بشكل مستمر، يعبر: "أشعر بأنّ القراءة هي المحرك الأساسي لحروفي.. دون القراءة، لا أستطيع الاستمرار في الكتابة بشكل جيد".