اعتداءات الاحتلال لا تقتصر على الأحياء، فحتى الأموات لم يسلموا منها، إذ يسعى لإزالة مقبرة باب الرحمة، ونزع أي جذور إسلامية في مدينة القدس.
في هذه المقبرة (باب الرحمة) يدفن مقدسيو البلدة القديمة موتاهم، لا سيما سكان حي سلوان، نبش الاحتلال في ذاكرتهم الأحزان من جديد، فهم مهددون بأن يجربوا الفقد من جديد، ولكن هذه المرة بفقد الأموات الذين يرقدون في هذه المقبرة.
ومقبرة باب الرحمة تقع عند السور الشرقي للمسجد الأقصى، وتمتد على مساحة 23 دونمًا، من باب الأسباط وحتى نهاية السور، بالقرب من القصور الأموية في الجهة الجنوبية، وتحوي قبور عدد من الصحابة، وقبور مجاهدين اشتركوا في فتح القدس أثناء الفتحين العمري والأيوبي، وحاليا يخطط لإزالتها وتحويلها إلى حديقة توراتية، واستخدام أرضها لوضع قواعد "القطار الطائر"، وقد بدأ بإجراءات عملية ضدها بالفعل، فيما اتجه الفلسطينيون إلى المحاكم لمنع ذلك، ومؤخرا أصدرت "محكمة الصلح" في القدس المحتلة قرارا مؤقتا بمنع أعمال التجريف فيها.
في غمرة الأخبار الواردة عن المقبرة، بماذا يشعر ذوو الموتى المدفونين فيها؟
ذكريات تتجدد
المقدسية الستينية "مريم بشير" تقطن في حي سلوان، كلما يغلبها الحنين للراحلين من أسرتها، تتوجه إلى مقبرة الرحمة، ففيها يرقد أبوها وأمها وأخوها، تزورهم لتأنس بهم، ولتحدثهم عن حياتها، ولتبكي بحرارة عند قبورهم، وكأنها تودعهم في كل مرة.
تقول الحاجة بشير لـ"فلسطين": "لا يجوز المساس بأمواتنا، كما أن مقبرة باب الرحمة هي وقف إسلامي لا دخل للاحتلال بها".
وتضيف: "حينما تجرّأ الاحتلال بانتهاك حرمة الأموات، انتابني شعور صعب للغاية، فهو بإزالة المقبرة، يزيل ما يجمعني بأغلى الناس على قلبي، والداي وأخي، لا أدري أين سيلقون عظامهم، وهل سأجمع عظاما لأموات لا أعرفهم؟".
وتتابع: "كل يوم أزور المسجد الأقصى، ولأصل إليه، أمر من طريق مقبرة باب الرحمة، وحينها تتجدد الذكريات، وكذلك الإحساس بأن من في القبور يعيشون على حسّ الأحياء، رغم أنهم أصبحوا في دنيا أخرى".
وتواصل بحسرة: "سيطروا على القدس والأقصى، ويكبلون الأحياء بقوانينهم الظالمة، ولم يكتفوا، واليوم يلاحقون الأموات في قبورهم، والذين يُعدّون شهودًا على إسلامية وفلسطينية هذه الأرض".
طمس الماضي
الناطق الإعلامي باسم لجنة الدفاع عن حي سلوان فخري أبو دياب، يقول: "ماضي عائلتي وتراث جدودي في هذه المقبرة، ففيها قبرا والدي ووالدتي, وأموات آخرون من عائلتيهما أيضا".
ويضيف لـ"فلسطين": "وبمجرد مروري يوميا من طريق المقبرة أشتم رائحة والدتي، لم أنسَها يوما، تأخذني إلى ذكريات حيث كنت صغيرا مدللا تحت جناحها".
ويتابع: "يلاحق الاحتلال الأموات أيضا، يريد طمس ماضينا، نعي جيدا أننا في صراع عقائدي على الأرض والهوية ومن ثم على القدس".
جسد واحد
والمقدسيون جسد واحد، يشدّ بعضهم أزر بعض، فمصابهم واحد وقضيتهم واحدة، وهذا ما تؤكده نظيرة العكرماوي التي تقطن في "وادي الجوز"، وتعمل في مدرسة تطل على مقبرة باب الرحمة.
تقول لـ"فلسطين" : "حينما أرى صديقاتي يبكين عند قبور أحبائهم في مقبرة باب الرحمة، ويشتد حزنهن خوفا من إزالتها، أبكي تلقائيا، وأخشى أن أمرّ بذات الشعور يوما ما، وأتساءل ماذا سيحل بي بعد موتي وماذا سيفعل الاحتلال بجثتي!".
وتضيف: "أمر دوما في طريق المقبرة التي تضم رفاة أبنائنا وأجدادنا، لا يمكن أن أتخيل أنها ستندثر يوما ما، فالشعب الذي ليس لديه ماضٍ ليس له حاضر"، مواصلة: "يجرح الاحتلال مشاعرنا بانتهاكاته بحقّ المقبرة، لذا فإن سكوتنا عن اجتثاث جذورنا يعني سكوتنا عن أمور أعظم".