"بيت".. كلمة من ثلاثة أحرف منكرة، ما إن أضفنا لها "ال" التعريف حتى أصبحت للإنسان وطنه ومستقره وطموحه في الحياة، وكلما زادت السنوات التي يقضيها الإنسان داخل هذا البيت، فإن جذوره تمتد تحت قواعد المنزل أكثر فأكثر، حتى يغدو كشجرة نخلة "معتقة" كلما زاد طولها فوق الأرض تغلغلت جذورها في باطنها.
"أبو أيوب شماسنة"، ابن حي الشيخ جراح، عاش فيها في بيت واحد، ولد فيه، وتربّى فيه، ثم تزوج وأنجب أبناءه الأربعة فيه أيضًا، سنوات طويلة من العمر أمضاها بين جدران هذا المنزل الذي سكنه والداه، وهو وحيدهما، منذ عام 1964م وبقي فيه حتى تاريخ الخامس من أيلول الماضي.
"فلسطين" تحدثت مع شماسنة لتتعرف عن قرب على معاناة الأسر التي يتم طردها من بيوتها في القدس، وما يعيشونه بعد الطرد..
"أيلول أسود"
أيلول هذا العام كان كئيبًا قاتمًا، شهد نهاية جولة قضائية بين عائلة شماسنة ومستوطنين قضت لهم محاكم الاحتلال بالاستيلاء على منزل العائلة، وفي فجرٍ لم يرَ نوراً، داهمت قوة إسرائيلية المنزل، وأخلت أهله منه بالقوة، وحملت والد ضيفنا "العجوز" على كرسي وألقته خارج المنزل.
وخلال ساعة واحدة فقط، انتقلت عائلة شماسنة من كونها عائلة مقدسية تعيش في منزل مستقر وآمن يحميها من برد الشتاء وحرارة الصيف وحمم الغضب من المحتل، إلى التشرد، لتنضم إلى قوافل العائلات المهجرة في الداخل المحتل، والتي يعود تاريخها إلى عام النكبة 1948م، وما بعده، ولتصبح فريسة "الشارع" و"القدر" وتهكمات المستوطنين، فللمرة الأولى في تاريخ طرد العائلات الفلسطينية من أملاكها، يتم توطين مستوطنين في الأملاك الفلسطينية لحظة الاستيلاء عليها، ليصبح "القهر" مضاعفاً، والهم أكبر، واحتمال العودة أبعد.
ولم يكتفِ المستوطنون بالسكن في منزل عائلة شماسنة، بل لا ينفكون عن مضايقة الجيران ولمزهم والتوعد لهم بطرد المزيد منهم في مقابل توطين المزيد من المستوطنين في هذا الحي المقدسي.
"أراه أربع مرات في الأسبوع".. بهذه العبارة ردّ أبو أيوب شماسنة على سؤال "فلسطين" له هل زرت منزلك بعد أن طُردت منه؟.
وقال: "أتوجه للبيت مراراً لأطمئن عليه وعلى الجيران، فقد كنّا نشكل معهم عائلة سعيدة، وبيننا خبز وملح وحكايات كثيرة".
وقد أنشِئ حي الشيخ جراح في القدس عام 1956م، شرق مدينة القدس، بموجب اتفاقية وُقّعت بين وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين والحكومة الأردنية، ويعاني أهله من تمدد أطماع المستوطنين وانتشار البؤر الاستيطانية وكاميرات المراقبة، مما وضع السكان في ما يشبه السجن، خاصة في المناسبات والأعياد اليهودية.
ليلة الفراق
ليلة الفراق لا تزال حيّة في وجدان أبي أيوب، الذي تفرق شمل عائلته ذات الأفراد الثانية (مع والديه) فكل فرد فيها أوى إلى منزل قريب أو جار، حتى والديه الطاعنين في السن، لم يبقيا سويا، هما أيضا تفرقا رغم كِبر سنهما وظروفهما الصحية الصعبة وحاجتهما إلى عناية خاصة.
أما أبو أيوب وابنه الأكبر فقد اعتقلهما الاحتلال، وأجبرهما على التوقيع على تعهد بعدم العودة إلى الحي لفترة محددة تكفل استقرار المستوطنين في المنزل، وبعد خروجهما تفرقا هما أيضا في منازل الأقارب، حتى تمكن أبو أيوب من استئجار منزل بعد مرور 35 يوماً على الطرد.
عن تلك الفترة، قال: "كانت أصعب أيام عشتها طوال حياتي، فكل ما رأيته من احتلال وانتفاضة وأحداث في كفة، وتشرد عائلتي بهذا الشكل المريع في كفة أخرى، أمضيت تلك الفترة أبحث عن منزل في حيِّنا لكنني لم أجد".
وأضاف: "تكلفة الإيجار في الشيخ جراح مرتفعة جداً، والشقق المتوفرة يرفض أصحابها تأجيرها لعائلة مكونة من ثمانية أفراد، اضطررت للخروج من الحي واستئجار منزل في قرية بيت نقوبا في قضاء مدينة القدس".
إذاً.. نجح الاحتلال في إخراج عائلة فلسطينية جديدة من مدينة القدس إلى قضائها، وهي ليست الحالة الأولى وبالتأكيد لن تكون الأخيرة، فهو ديدن الاحتلال.
قرية بيت نقوبا تقع إلى الشمال الغربي من مدينة القدس، وتبعد عنها 13 كيلومترا، هُدمت عام 1948م، وشتت الاحتلال سكانها، وصادر أراضيها البالغ مساحتها 2010 دونم، وأقام على أراضيها مستوطنة "موشاف بيت نقوبا" عام 1949م، وما بقي منها لا يزال مهدداً، أي أن عائلة شماسنة لا تزال على موعد "مُحتمل" مع طرد جديد واستيطان متجدد في أرض "حرة" يحدثنا التاريخ أنه ما استقر فيها محتل وإن طال بقاؤه.
المنزل الغريب
وما يضاعف شجن العائلة، هو تخلي المؤسسات المحلية والدولية والرسمية الفلسطينية والعربية أيضا عن دورها في دعم صمود المقدسين وهو "ما تتغنى به ليل نهار" على حد وصف أبي أيوب، الذي أكد لنا أن عائلته لم تتلقَ مساعدات سوى من وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" وقدرها خمسة آلاف دولار تلقتها العائلة يوم إخلائها، وبعد مرور شهرين من الحادثة قدمت لهم وزارة شؤون القدس قيمة إيجار منزل لمدة عام.
تغير الحي، وتغير الجيران، وتبدلت جدران المنزل.. فهذا المنزل غريب، أنفاسه غريبة على أبي أيوب، الذي أوضح لـ"فلسطين" أن عائلته، حتى اللحظة، لم تختلط بالجيران.
وقال: "أما في الشيخ جراح فقد كنا أسرة واحدة، أعرف أن الزمن كفيل بتغيير الوضع لكنني أتطلع للعودة إلى ذلك المنزل إنه منزلي".
والدا أبو أيوب لا يزالا غير متأقلمين مع الوضع الجديد، ويرفضان تناول الدواء وكأنهما يقولان إن واصلنا الحياة سنبقى مهجرين، لعل خلاصنا يكون في موتنا، أو لعل الاحتلال الإسرائيلي يسدل ستار المنع عن أجسادنا الهرِمة، لعله يسمح لنا أن نلتحف بتراب الشيخ جراح..
وفي ختام حديثه معنا، تمنى على الأمة العربية والإسلامية، ومن قبلها السلطة الفلسطينية، أن تنفذ وعودها للفلسطينيين، وتحديداً للمقدسيين الذين لا حول لهم ولا قوة في مقارعة الاحتلال وحدهم، ودعم صمودهم حتى تبقى القدس "عامرة" بأهلها ولا تبقى خالصة لبراثن المستوطنين تنهش فيها من كل مكان.

