يعد كتاب تاريخ دمشق لابن عساكر (ت: 571هـ/1175م) من المصادر المهمة التي أرخت لحقبة مهمة من حقب التاريخ الإسلامي في القرون الأربعة الأولى، وكانت المدن الفلسطينية وخاصة القدس حاضرة بشكل كبير في هذا المصدر المهم، بحيث أن ابن عساكر أرخ للحياة الفكرية والثقافية فيها بشكل مباشر أو غير مباشر من خلال حديثه عن أشهر العلماء الدمشقيين، أو الذين زاروا دمشق.
وقد مثل المسجد الأقصى دورًا مهما في ازدهار العلوم الدينية في فلسطين، والاهتمام بها، إلى جانب كونه مكانا للتعبد، وأداء الشعائر الدينية، لما كان له من قيمة عظيمة، ومكانه دينية رفيعة في نفوس وأذهان المسلمين في شتى بقاع الأرض، كونه أولى القبلتين، وثاني المسجدين، ومسرى النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، يقول الله تعالى: [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ] {الإسراء:1}. لذا أصبح المسجد الأقصى من أهم المراكز التعليمية والفكرية في فلسطين، فتجمع فيه العلماء وطلاب العلم من شتى أنحاء الولايات الإسلامية لزيارته، والتعبد فيه، ولإلقاء الدروس، وتلق العلم، فكانت تقام فيه حلقات العلم، وتدريس العلوم المتنوعة، وقد اشتملت المعارف العلمية في القدس ومسجدها الأقصى كما أفاد ابن عساكر على عدة علوم: كالقراءات، وعلوم الحديث، والأدب، وإنشاد الشعر.
وقد ذكر ابن عساكر أن حلقات الدروس في المسجد الأقصى كانت تعقد بشكل عام منذ الصباح، بعد انتهاء الصلاة، فقد كان عطاء بن أبي مسلم الخراساني: "يتكلم بعد الصلاة في القدس"، وكان "أبو الحسن علي بن الحسن الصيرفي البغدادي (كان حيًا في320هـ/932م)،... يتكلم على الناس بعد صلاة العصر في مسجد القدس".
وممن قرأ العلم وحدث بالمسجد الأقصى، أو بجامع القدس كما أطلق عليه ابن عساكر، أبو الفضل بن أبي نصر، فقد نقل ابن عساكر عنه أنه قال: "سمعت أبا حامد أحمد بن علي بن إسحاق الجرجاني الحافظ في مسجد القدس"، كما ذكر أن نصر بن إبراهيم المقدسيّ قرأ النحو على أبو سعيد عبد الكريم بن إبراهيم بن محمد بن الحسن النحويّ الرازي في المسجد الأقصى.
كما كان محمد بن محمد بن محمد المعروف بابن الغراء (ت: 462هـ/1069م)، من شيوخ المسجد الأقصى، "سكن بيت المقدس وحدث بها بصحيح مسلم"، ومن أبرز تلاميذه الخطيب البغدادي الذي يقول: "كتبت عنه ببيت المقدس".
وقد ضم المسجد الأقصى بين جنباته المقدسة العديد من الأماكن التي شكلت مراكز علمية مزدهرة في القدس، ومواضع مهمة يُلقي العلماء فيها دروسهم، وكانت من المراكز العلمية في المسجد الأقصى، ومن تلك الأماكن:
أ- محراب يعقوب عليه السلام: كان يلتقي عنده المحدثون لينهلوا من بعضهم، فقد ذكر أبو القاسم بن السمرقندي بأنه قرأ على أبي بكر محمد بن أحمد بن أبي القاسم الطوسي المقرئ إمام الصخرة المقدسة بالقدس، وقال له: "أخبركم أبو حفص عمر بن أحمد بن محمد الخطيب الواسطي قراءة عليه وأنت تسمع بالقدس في محراب يعقوب سنة (440هـ/1048م)".
ب- محراب معاوية: وقد كان "أبو الحسن علي بن الحسن الصيرفي البغدادي (كان حيًا في320هـ/932م)، رجلًا زاهدًا متعبدًا، وكان يتكلم على الناس بعد صلاة العصر في مسجد القدس في محراب معاوية، فقال له بعض الشيوخ: يستند الشيخ؟ فقال: ما حولت وجهي عن القبلة إلا وقعت عيني على ما أكره؛ وما رؤي قط إلا متوجهًا إلى القبلة"، وقد "رزقه الله لسانًا في علم التوحيد يدق عن مسامع كثير من الناس...، وتوفي هذا الشيخ رضي الله عنه وهو في صلاة الوتر قرأ "قل هو الله أحد"، فلما قال: "ولم يكن له كفوًا أحد"، فاضت نفسه رحمة الله عليه".
ج- مهد عيسى عليه السلام: وقد "اجتمع الإمام أبو حامد الغزالي وإسماعيل الحاتمي وأبو الحسن البصري وإبراهيم الشباك، وجماعة كثيرة من أكابر الغرباء بالمسجد الأقصى، في مهد عيسى عليه السلام فأنشد منشد هذين البيتين:
فديتك لولا الحب كنت فديتنيولكن بسحر المقلتين سبيتني
أتيتك لما ضاق صدري من الهوى ولو كنت تدري كيف شوقي أتيتني
فتواجد أبو الحسن البصري وجدا أثر في الحاضرين، وتوفي محمد الكازروني من بين الجماعة في ذلك المجلس، ورفع ميتًا".
د-قبة الصخرة:
وعد مسجد قبة الصخرة داخل سور المسجد الأقصى بالقدس من المراكز العلمية المهمة، وقد أفاد ابن عساكر بوجود حركة علمية نشطة فيه، فقد سمع عبد الرحمن بن عبد الساتر بن الحسن أبو محمد المقدسي، الحديث من أبي القاسم مكي بن عبد السلام بن الرميلي بباب الصخرة المقدسة في سنة (485هـ /1092م).