فلسطين أون لاين

إليف شفاق تبوح في مذكراتها "حليب أسود" عن "اكتئاب بعد الولادة"

​أمومة الكاتبات حين تُعيد تشكيلَ "طِينة القلب"

...
غزة - هديل عطا الله

بعد أشهرٍ من الاكتئاب والتقوقع ومحاولات العلاج الفاشلة؛ كان ذلك صباح مختلف حين استيقظت الكاتبة التركية الشهيرة "إليف شفاق" مدفوعةً للكتابة مجدداً؛ لم يكن حليبها أبيض كالثلج؛ ولكنها قالت: "لا بأس في ذلك؛ ربما أقدر لو بدأت الكتابة عن تجربتي هذه أن أجعل من حليبي المسوّد حبراً؛ للكتابة دوما تأثير ساحر يشفي روحي؛ وبها أقدر أن أشق طريقي خارجة من هذا الاكتئاب".

"فلسطين" تتناول مذكراتها في كتابٍ أطَلقت عليه "حليب أسود"؛ وفيه تروي مرحلةً حساسة في حياة الأمهات الكاتبات قلما يتم البوح عنها؛ فيما تصحبنا في سياق التقرير؛ الكاتبة الفلسطينية في المجال الاجتماعي إباء أبو طه لتشاركنا تجربتها في هذا الجانب.

حِكمة الجدات

كان السؤال الأهم الذي تدور حوله حكاية إيليف: "هل على الكاتبة أن تتنكر لأنوثتها كي تصبح كاتبة؟ أم عليها التنكر لإبداعها كي تصبح أما وتعيش في طمآنينة وسلام؟"..

الكاتبة التي اشتهرت بــ"قواعد العشق الأربعون"؛ مكثت عشرة أشهر بعد الولادة عاجزةٍ عن الكتابة وهذا ما لم يحدث من قبل معها؛ اجتهدت أن تجد طريقاً للتوازن أثناء عبور الاكتئاب حياتها آنذاك؛ وحاول المقربون منها تقديم المساعدة حين رأوها في حالٍ يرثى لها؛ حول ذلك تقول: "جدتي لأمي امرأة لطيفة وقدسية وغفيرة بالخرافات؛ بعد أسابيع من مشاهدتها بكائي المتواصل وضعت كفي بين كفيها وهمست بصوتٍ أنعم من المخمل: طفلتي العزيزة عليك أن تستجمعي قواك؛ ألا تعرفين بأن كل دمعةٍ تذرفها الأم الجديدة تجعل حليبها أكثر حموضة".

ويبدو أن إليف ازدادت ذعراً؛ وهذا الدليل: "لم أكن أعرف ذلك؛ وجدت نفسي أفكر في تلك الصورة؛ ما الذي سيحدث لو أن حليبي صار خاثراً؛ هل سيصبح قاتماً ويأخذ هيئة أكثر دكنة؟ لم تقم هذه الفكرة بتنبيهي أكثر بل أشعرتني بالذنب؛ أردت إرضاع طفلتي من حليبي كأفضل ما أستطيعه ولأطول فترة ممكنة لكن لم أتمكن من ذلك؛ صورة إفسادي لحليبي استمرت بإزعاجي في النهار؛ بل والهجوم علي في عقر أحلامي".

وفي هذا الجانب تعقد الكاتبة التركية اللامعة؛ مقارنةً منصفة بين جيل الجدات وهذا الجيل: "جداتنا كن على علمٍ بكل اضطرابات ما بعد الولادة؛ وأعددن لذلك أفضل تدبير لها؛ وقد نقلن معرفتهن لبناتهن وأحفادهن؛ غير أننا اليوم مبتعدون عن الماضي حتى أننا لا نملك مدخلاً لحكمتهن تلك؛ نحن النساء العصريات عندما يصيب دواخلنا العطب والإعياء نخفي علاماتها بأحدث تقنيات التجميل".

إلى درجة أن الكبيرات في السن في تركيا يؤمنّ بأن على الأم الجديدة خلال الأيام الأربعين الأولى من ولادتها؛ أن تبقى برفقة من تحبهم ووسط حفاوتهم؛ أما إن تُركت لوحدها ولو للحظة واحدة؛ ستكون فريسة هجمات الجن؛ وتغرق ضحية لطوفان الهموم والقلق والمخاوف؛ لهذا تقوم العائلات التقليدية حتى الآن بتزيين فراش حديثة الولادة بشرائط قرمزية وينثرن بذار الخشخاش المقدسة في أرجاء الغرفة لطرد أي روح شريرة".

لكن إباء أبو طه تطرح تساؤل بشكل آخر أثناء حديثها مع "فلسطين" :"لماذا على الأنثى أن (تتنكر) دوماً أثناء محاولتها للتعايش مع الواقع؟ لماذا لا تُحيى عالمها بطريقةٍ تبدو فيها متآلفة مع ذاتها وواقعها؛ في الحقيقة حالة التصالح ستكون أكثر خفّة على نفس المرأة من حالة (التنكر) والتجاهل والتي هي في حقيقتها حالة من الانتحار البطيء أو الانتقام من الذات".

وتمضي في شرح فكرتها: "أدرك تماماً أن كل أنثى قد تلجأ لمحاولات التنكر لأسباب كثيرة منها الضغوط الاجتماعية الواقعة عليها أو (لضعف إيمانها بذاتها) وهذا يبدو أشد خطراً وأقسى على النفس من أي شيء آخر؛ إن كان هناك إمكانية مثلاً أن أكون أماً لأطفال وامرأة مبدعة لم لا.. هل سيكون ذلك مستحيلاً؟؛ ربما القيام بشيءٍ من الموازنة سيكون مريحاً مقارنةً بحالة التنكر التي سأحياها والتي لطالما ستذكرني بالعجز وتتركني في صندوق مغلق، لا سيما وأنها لن تقف على فصلٍ واحد من التنكر، بل سيطال فصول عديدة من حياتي كأم وأنثى، وهنا لا بد أن أزيل الهوامش والحواشي والتي عادة ما تعزز فينا الرغبة للهروب، وأركز على ذاتي كــ(نص متين) في فصل سأبتسم على الأقل كلما تذكرته أو قرأته".

أن تنتج إنساناً

ومع كل الصعوبات التي واجهتها الكاتبة إليف إلا أنها تقرّ بالتالي: "الأمومة أعظم هدايا الحياة؛ إنها قالبٌ يعيد تشكيل طينة القلب؛ هناك سبب يجعل ما لا يحصى من النساء يقلن إن الأمومة هي أحسن ما جرى لهن في الحياة؛ وأنا اتفق مع ذلك من أعماق قلبي".

بلا شك أن إباء هذه المرة توافقها لتقول: "الأمومة هي أعظم هدايا الوجود لمن يستثمر فيها استثمار النبيه الذي يعي كل لحظةٍ من لحظات أطفاله، فيرشدهم ويحميهم ويصنع البصمة المستقبلية في ذواتهم، لا بصمة الحاضر فحسب".

فقط وتضيف: "إنها أعظم عمل يمكن للمرأة أن تؤديه، لا سيما في هذا الزمن الذي ينال فيه الإنسان قيمته من الحياة المادية، بشهاداته، وخبراته، وعدد سفراته؛ لتعيد الأمومة صياغة نظرتنا للأشياء من حولنا، معلنةً بأنه لا شيء في الدينا يعادل مهمة أن "تنتج إنساناً"؛ في كل لحظة نربي بها طفلاً نحن فعلياً "نشكّل" إنساناً بكيانٍ كامل؛ إنسان له شغف، طبائع، تصورات، أفكار، مبادئ ومعتقدات؛ وأمام كل هذا لا يزال البعض يتساءل لم الأمومة عظيمة! أو هناك أعظم من ذلك؟

وبالعودة إلى "حليب أسود" تقول كاتبته : "لا أقول إن الانتقال إلى مرحلة الأمومة أصعب على المبدعين من غيرهم إذ أنني رأيت نساء من كل مشارب الحياة يخضن كل الذي مررت به؛ ربما أكثرنا قوة وثقة هنا في الحقيقة أكثرنا هشاشة؛ ومن المثير أن هذا الدولاب النفسي قد يدور ببساطة في الولادة الثانية أو الثالثة أو حتى السادسة كما في الأولى تماما".

بروحٍ جميلة، تتابع إباء حديثها: "نصبح أكثر هشاشة مع كل إنجاب طفل، لأن عالم الأطفال يبدو كبيراً إلى الحد الذي لا يمكننا استيعابه، ويبدو قوياً إلى الحد الذي قد يصيبنا بالضعف في كل موقف نحاول به تعديل سلوك أو إخبار طفلنا أنه أخطأ في تصرف ما؛ هذا الدولاب النفسي من الهشاشة لن ينتهي لأن الأمومة بقدر ما تمنحنا قوة، قد تزيدنا ضعفاً، لما يحمل هذا الدور بين طياته التعب، والاستنزاف، والاجتهاد، والسعي، والعزم، والمثابرة، والتحليل، والترقب وغيرها.. ومع كل هذا كيف يمكن لنا أن نبقى ثابتين راسخين مدى الزمن".

تبتسم وهي تجتهد في توضيح مقصدها: "بقدر هذا التعب والخور، نمر نحن الأمهات بلحظات من الصلابة الكبيرة، التي يصبح كل شيء حولنا عصيّ عن تثبيطنا ومنعنا عن أداء ما نريد، حتى أننا قد نصل لمرحلة لا نعرف فيها متى يكون عزمنا قد فتر أو اشتد؛ الأمومة في حقيقتها كفصول السنة تارةً تجد الأم ذاتها ربيعيّة مزهرة، وأحياناً خريفيّة مرهقة وذابلة، وتارةً أخرى صيفيّة مشتعلة بالغضب والحزن، وتارة شتويّة باردة في عواطفها ومشاعرها تجاه أطفالها وأسرتها؛ وكلّ هذه التقلبات إنما تساعد المرأة الأم على الاستمرار والبقاء".

وفي "لحظة مكاشفة" تُفصح إباء أنها بعد مولودها الثاني "إبراهيم" عاشت مشاعر لأول مرة هي من قبيل الاضطراب الداخلي؛ وظهرت على السطح في هيئة تساؤلات ومن بينها: "لماذا تزوجت؟ لماذا أنجبت طفلي الثاني؟ ما نهاية هذه الحياة؟ ما أفق هذه الأمومة؟ بما أني أكتب وأعمل كيف سأمارس هواياتي.. هل سأستمر في أداء هذه الواجبات بين تغيير الحفاظات والرضاعة؟"..

رافقتها هذه الأفكار لمدة ستة أشهر؛ تقول: "كان طفلي نكِد يستيقظ معظم الليل؛ ومن الطبيعي ألا أجد الوقت لاهتماماتي الخاصة مثل ممارسة الرياضة؛ أو القراءة أو كتابة المقالات أو حضور الندوات؛ دعم زوجي لي لم يكن كافياً؛ فهو يعمل ما يزيد عن ثماني ساعات؛ وحين يعود للبيت يكون الإنهاك قد دّكَ عظامه فأي مساعدةٍ بوسعه أن يقدمها لزوجته حديثة الولادة؛ هو دعم معنوي بالدرجة الأولى؛ وإن حاول صنع شيء فليس بدرجة الإتقان المطلوبة مما سبب لي الكثير من الإحباط والصراع الذي لا زلت أقاسي من بعض آثاره حتى اللحظة".

مُرّبية دافئة القلب

وبالعودة إلى سطور "حليب أسود" الذي يحمل قدراً من الشفافية والمتعة؛ تقول إليف: "في أحايين كثيرة يبدو أن أكبر جائزة تأمَل كاتبة في الظفر بها ليست بوكر أو أورانج بل "مُرّبية دافئة القلب" ومخلصة؛ إنه حلمٌ مشترك بين كاتبات كثيرات؛ أن يسمعن هذه الكلمات الأربع السحرية: "والفائزة بمدبرة المنزل هي... " ولا عجب أن تكون بين المنح التي فازت بها "سيلفيا بلاث" منحة مربية؛ ما تستطيع به أن تستأجر مربية ماهرة تعتني بالبيت كي تجد طاقة ووقت للكتابة.. "سليفيا" الشاعرة التي شكّل الأطفال مجازات في أشعارها؛ حتى أنها روت كيف أن قصائدها تبتسم لها؛ وكيف أن جباهها الصغيرة متغضنة من التركيز؛ لم تكن أماً لطفلين فحسب ولكن لألف قصيدة.

وفي المقابل ترى إيليف أن هناك كاتبات حظينَ بمواهب رائعة إلا أنهن لم يكن كذلك في أمومتهن؛ فخلف الواجهات البراقة هناك أفئدة مسحوقة لا نعرف عنها إلا اللمم؛ وتستشهد على ذلك بــ"موريل سبارك" إحدى أهم المؤلفات الملهمات في القرن الماضي؛ كتبت أكثر من عشرين رواية والكثير من الأعمال الأخرى بما فيها كتب الأطفال والمسرحيات والقصص؛ وعندما رحلت في عمر يناهز الثمانية والثمانين حضر عالم بأسره جنازتها؛ ما عدا شخص واحد فقط: ابنها روبن.

وفي نظرةٍ لواقع الأم العربية؛ تعلّق إباء أبو طه بابتسامةٍ ساخرة: "في عالمٍ محموم بالحياة الاستهلاكية والإنتاجية، الأم أو ما تُعرف بربة المنزل، لا تحظى بالاحترام الكافي أصلاً من قبل العالم "المادي" والذي من وجهة نظره أنها لا تنتج سلعاً مادية إذا ما قورنت بالأم التي تخرج لسوق العمل، والتي هي فعلياً تقدم وتنتج خدمات وسلع للسوق وتقوم باستهلاكها في الآن نفسه؛ فالمرأة التي تخرج للعمل هي فعلياً تتابع الموضة والمكياج وكل ما له علاقة بحياة الاستهلاك أثناء خروجها للعمل؛ بينما ربة المنزل هي عبء على الحياة المادية، فهي لن تضطر لشراء حذاء أو فستان طالما تمكث بالبيت إلا إذا اقتضى ظرف ما، كما أنها لا تقدم خدمة للسوق؛ هم يتجاهلون تماماً أنها "تنتج إنساناً" وتقدم خدمات جليلة لا تتقاضى أجراً عليها؛ خدمات تعجز عن أدائها أعظم المؤسسات".

تعست البهلوانيات

"بهلوانيات السيرك" المصطلح الذي راق لبطلة "حليب أسود" أن تطلقه على من يجمعن بين الأمومة والعمل؛ "إنهن يرسلن أطفالهن صباحا إلى المدرسة؛ ثم يقمن بإعداد وجبة أومليت رائعة لأزواجهن؛ بيضتان وملعقة من الزبدة ثم ترتدي ثيابها على عجل؛ وبالكاد تصل الى عملها في الوقت المناسب؛ ثم تعود مسرعةً إلى منزلها بعد انقضاء النهار لتعد طاولة الطعام؛ بعدها تغيب عن الوعي نائمة على الأريكة وهي تشاهد التلفاز؛ البهلوانيات يستطعن أن يتدبرن أمر اللحظة فحسب؛ أن يحملن واجبات الأمومة والوظيفة؛ لكن إلى أي مدى يستطعن الوصول في مهنهن!".

بكل شجاعةٍ تعترف إباء أنها كانت تعيش في جحيم قبل أن تضطرها الظروف للجلوس في البيت مؤخراً؛ تقول: "كنت أقول لصديقاتي إن التوازن أمر خيالي ويفضي إلى شيءٍ من الجنون والاستنزاف؛ و لو نجحت الأم في الوصول للمثالية في عملها وبيتها سيكون على حساب صحتها الجسدية والنفسية فيما بعد".

وتتابع الاعتراف: "رأيّ الذي لن يعجب الحركات النسوية؛ أن المرأة من الصعب أن تجمع بين الاثنين؛ لا شيء يكرمها عالياً وبأرقى المراتب مثل جلوسها بالبيت؛ لأنه يخلق توازنها الجسدي والنفسي؛ فتشعر بأنوثتها وقدرتها على العطاء لتعيش حالة صفاء ذهني تام؛ وكي أحافظ على كينونتي فإني أحاول أن أجد عملاً في البيت بعيداً عن العمل المؤسساتي؛ لقد رأيت أن هذا الجو الحميمي ينعكس على طبيعة العلاقة بين الطفل والأم؛ حين تستقبل أطفالها بعد عودتهم من المدرسة فيجدون المائدة جاهزة؛ فيما المرأة العاملة بالكاد تخلق الوقت لتؤدي بعض من التزاماتها فلا يبقى وقت تقضيه مع طفلها؛ إن لم تكن الأم متواجدة في حياة طفلها ماذا بقي لها من دور! هذا الدفء والحنان والتلامس هو ما يحتاجه في هذه المرحلة".

وتؤكد أن أعظم ما يمكن أن تصنعه الأم بعد التربية هو بناء الذكريات الدافئة الجميلة في عقل طفلها؛ مما يتطلب قربها؛ مضيفة: "آمنت من قبل بفكرة أن الطفل يحتاج إلى وقتٍ نوعي وليس كمي؛ لكن فوجئت أن الطفل حتى عمر سبع سنوات؛ يحتاج إلى وقت كمي؛ هذا التواجد حتى لو لم تعطيه الأم اهتمامها فإنه يخلق لديه علاقة حميمية؛ أما حين تغيب الأم ثماني ساعات خارج البيت تصبح "العلاقة خدماتية".

لكل متاهةٍ مخرج

"يحدث أن يكون الاكتئاب فرصة ذهبية أعطتها الحياة لنا لنواصل التقدم في أمور تعني الكثير لقلوبنا؛ إلا أنها جراء تسرعنا أو إهمالنا قد أزيحت تحت السجادة؛ أُخفيت فنسيت"؛ هذا ما تقوله إليف؛ فتتماهى إباء مع هذه الفكرة لتعبر عنها: "لا يمكن للمرأة أن تتجاوز الاكتئاب إلا إذا ساعدت نفسها وتعَافت داخلياً؛ وذلك عبر التركيز على الجانب النفسي والفكري في الأمومة؛ وهذا ما حاولتُ فعله حين خاطبتُ نفسي أني أؤدي دور عظيم؛ فالحياة عبارة عن مجموعة من المرحل وكل منها لها مميزاتها؛ فليس من المنطقي أن أمارس نفس طقوسي قبل الزواج أو في مرحلة الجامعة؛ وهكذا نجحت في الخروج من هذه القوقعة".

وتتابع: "اقتنعت أني الآن أعيش مرحلة جميلة وإن كانت صعبة؛ وأني كي أغدو صلبة ومتينة ومعطاءة في الأمومة عليّ أن أكون مستمتعة فيها لأن أي عمل بلا استمتاع يصبح واجب ثقيل على الأم؛ هذه الأفكار ساعدتني على الخروج من العزلة والنظرة السوداوية لدوري كأم بعد أن كان يسودني القلق والغضب والتوتر".

قررت إباء أن تفرّق بين دورها كأم وبين هويتها؛ إنه الخطأ الشائع الذي تقع فيه بعض الأمهات حين لا تفرقّن بين دور الأمومة والهوية؛ توضح مقصدها: "اهتمامي بأطفالي لا يعني أن أُحرم مما يعزز هويتي؛ كالقراءة وحضور الندوات ولقاء من أحبهم؛ وممارسة الرياضة وتناول الغداء مع صديقاتي؛ هذه الأمور ساعدتني على التماسك النفسي مما انعكس إيجاباً على علاقتي بأبنائي بفضل اهتمامي بـمساحتي الشخصية؛ وبالتالي أصبحتُ أكثر قدرة على استيعاب دوري؛ وتحول الأمر من مسؤولية إلى عبادة".

دعونا لا نحرق الأحداث بشأن ما عاشته إليف في سبيل وصولها للتعافي؛ لكن دعونا نفصح عن الخير الذي حمله الاكتئاب لها؛ تقول: "اعتقد بأنه كان علي أن أعيش هذا الاكتئاب كي أجمع شظايا نفسي من جديد؛ بعد ولادة طفلتي لم يعد ذلك النظام فعالاً؛ لم أكن قادرة على تحمل التعدد الذي بداخلي؛ الأمومة تحتاج الواحدية؛ تحتاج الثبات والتكامل؛ بينما كنت منقسمة إلى ستة أصوات إذا لم يكن أكثر؛ تصدّعت تحت ذلك الضغط النفسي".

وتضيف إليف: "تحتاج كل امرأة إلى وقتٍ محدد يخصها وحدها لتنهي دائرة الاكتئاب داخلها؛ تأخذ الدائرة عند بعضهن بضعة أسابيع وعند البعض الآخر سنة وأكثر؛ لكن مهما كان الاكتئاب معقداً ومدوخاً؛ فكل متاهة لها مخرج".

وكأنها تبتسم حين خطّت هذا المقطع في نهاية الكتاب: "اسم ابنتي شهرزاد زيلدا؛ ؛ ثم أنجبت ابننا أمير زاهر؛ كنت ولا أزال ملهمة بــ زيلدا وزاهر في كل شيء كتبته وقمت به؛ وبجماليات الأمومة وصعوباتها؛ حملي الثاني كان سهلاً للغاية ولم أقابل "لورد بوتون" – الاكتئاب- لا بعد الولادة مباشرة ولا حتى في الأشهر التي تبعت ذلك".

وهنا تأتي البشارة : "بعد سنة من الولادة الأولى انتهيت من روايتي: "قواعد العشق الأربعون" وقد تصدرت قوائم الكتب الأفضل مبيعا في تركيا؛ وعدت لقبول طلبات المقابلات وكتابة الأعمدة الصحفية والمقالات؛ وحضور الفعاليات الأدبية والتنقل بين الثقافات كما كنت دائماً".

ويحلو للكاتبة في المجال التربوي إباء أبو طه أن تختم حديثها الماتع معنا بالقول: "كانوا دوماً يرددّون على مسامعنا أن الأم بتضحياتها كــ"الشمعة" التي تضيء ذاتها لأجل أطفالها، لم يعلموا في واقع الأمر أنها تحترق، تتعب، قد تنهار فجأة؛ لم يرشدونا إلى سبل مساندتها ودعمها ومنعها من "التفسخ" النفسي نتيجة الضغوط المتراكمة عليها".

وتنصح كل الأمهات المبدعات من أجل حياةٍ متوازنة: "من الأمور التي تساعد الأم للحفاظ على صحتها النفسية والجسدية هو التخلّي عن فكرة "الفناء"؛ لا تدرك هذه الأم أنها ستمرّ بمرحلة من الاستنزاف، من انهيار قوّة قد أحاطتها يوماً، ستبكي فجأة دون سبب، أو لسبب تافه كأن يوقع طفلها طبقه أرضاً، أو يرفض الاستحمام".

بهذا تضع أبو طه اللمسة الأخيرة: "الفناء" هو أن تفنى بتعليم أطفالها، وتزويدهم بكافة المهارات المطلوبة، في الوقت الذي تجهل فيه مهارة السواقة، أو الخياطة، أو زراعة نبتةٍ ما، أو كيفيّة وضع أحمر الشفاه؛ "الفناء" أن تذهب إلى حديقة عامّة تصطحب أطفالها للعب، فتجد جسدها بدا شائخاً أمام قفزاتهم، وأن وثبها سيكون أصعب من اللحاق خلفهم؛ "الفناء" هو الوجه الآخر للمثالية المفرطة، والصورة الأخرى "للأم الخارقة".