تزوجته بعد إلحاح والدته وضغطها الشديد على والدها بأن يتم الخطبة. كيف لا وهي أخته التي يحبها جداً ولا يستطيع رفض طلب لها؟ وهذا وحيدها وقرة عينها.. ولكن، هي متعلمة والشاب ليس كذلك، وهو ضعيف ساذج وهي مثقفة قوية الشخصية، كما أنها موظفة وهو لا عمل له، ما حدا به إلى التلكؤ في كل مرة في الرد على طلب أخته. عمدت إلى تهديده بالقطيعة إن لم يُجب طلبها.. فوافق على مضض، بعد أن وضع بعض الشروط.
ارتحلت إلى عشها الموعود. شقة تعتلي شقة عمتها. وما هي إلا فترة قصيرة بعد الزواج، لم تدر الفتاة خلالها ماذا حل بعمتها، ما الذي غيرها هكذا فجأة، وكأنها ليست هي، فما إن تسمع دبيب أقدامها في الشقة بعد عودتها من وظيفتها حتى يشتعل الغضب في صدرها من دون مقدمات.. فتوغر صدر ابنها على زوجته الناشز.. إجهاضات متكررة لم يجد الطبيب لها سبباً، بينما قيل لوالدتها إنه سحر مسها ليفرِّقوا بينها وبين زوجها. وغدت القاعدة الأثيرة لدى الحماة: الشجرة التي لا تثمر تركها تجف هو الأولى، ولم تستكن حتى ولت الكنة هاربة.
اتهمها من حولها بأنها غرة وغير ناضجة بما يكفي للتعامل مع الزوج وأمه، وكانت الوصفة السحرية: قليل من الصبر مع رشة احتواء، وبعضاً من مهارات الحب والاحترام وسيعتدل الحال. وبعد فترة من الراحة والسكينة وتحت إلحاح لجان الإصلاح وأهل الخير، عادت مرة أخرى إلى عشها، تأمل بتطبيق الوصفات السحرية حتى تصبح سعيدة في زواجها.
أيام عدة مضت بسلام عادت بعدها من عملها لتجد الماء مقطوعاً عن شقتها، ثم تبعته الكهرباء بعد ساعات.. ماذا يجري بحق الإله؟ عمتي: هل أمَّان الكهرباء مفصول من عندك؟ أرجوك ألقي نظرة. ويا ليتك تنظرين إلى "شبر" الماء أيضاً.. فواضح أن في الحكاية خلل ما.. لحظات قليلة مضت هرع الزوج بعدها مزمجراً كليث ينقض على فريسته: أنت تتطاولين عن والدتي، وتكيلين لها تهم شتى. أنا؟؟ أجل أنت.. من تحسبين نفسك، سأدوسك بقدمي مثل فأر.. بل مثل ذبابة.. وطفق يسدد لها اللكمة تلو اللكمة واللطمة تلو اللطمة.
هرعت والدته قائلة: طلقها يا بني.. نحن لا نريدها، يكفينا من المشاكل والفضائح ما جلبت لنا.. طلقها، لا نريدها في بيتنا.
لملمت أشلاءها، وغادرت وهي مصممة على اللاعودة.. وقبل أن تمضي أسابيع ثلاثة كانت الضغوط تلاحقها بالعودة من حدب وصوب، كان يرسل لها المرسال إثر الآخر، يحمِّله بمشاعر الندم ويغرقه بوعود أولها إبعادها عن مكان سكن والدته، ووعود أخرى، لو أنها كانت خرقاء مغفلة لحسبتها الفردوس المفقود الذي ينتظرها.. ولكن هيهات هيهات.. فهل يلدغ مؤمن جحر مرتين؟.
وكانت لله مشيئة أخرى.. فقد أخذ جنين لم تكن تعلم وجوده يتحرك داخل أحشائها، يا إلهي.. ها هو أمل بالحياة يشع مجدداً الروح داخلها وينفض الكثير من اليأس عنها.. اتصل زوجها يرجوها العودة ويتحسر بوجد ويبكي والدته التي اختارتها الأقدار، ويتمنى بلوعة لو أن دبيب الحياة لا يزال يجري في عروقها، ليرى الوليد الجديد النور بين يديها. لم تمتلك إلا أن تتذكر كلمات عمتها التي سمعتها تدعو "أن لا تضع في حجرها طفلاً من نسلها أبد الدهر".. ولكن كانت لله إرادة أخرى.
مرت شهور ثمانية من الحمل المضني تأرجحت خلالها بين العافية والمرض، وفجأة حدث ما لم يكن بالحسبان، نقلت إلى المشفى، وما هو إلا وقت قصير حتى كان مبضع الجراح يشق بطنها لينقذ وليدها من موت محقق، يخرج الطبيب بعدها مضطرباً وكمامته لا تزال واضعاً على وجهه متسائلاً بصوت متهدج: أين أهل إيمان؟ عظم الله أجركم.