تأتي الذكرى الثلاثون على تأسيس حركة المقاومة الإسلامية "حماس"؛ وقد مرت فيها هذه الحركة بمنعطفات كثيرة، وتعرضت فيها لكثير من الشدائد والابتلاءات، فمنذ انطلاقتها الأولى تعرضت لأشكال متنوعة من القمع، كان أولها عام 1989م إذ تم اعتقال قيادة الحركة وعلى رأسها الشيخ أحمد ياسين وعدد كبير من رفاقه، وحُكم على بعضهم بأحكام كبيرة، ظنّ البعض أن تكون هذه هي الضربة القاضية التي تنهي وجودها من على ساحة العمل والمقاومة. وإذ بالحركة تنهض من جديد وتقوم بغير المتوقع منها، ففي عام1992م تعلن الحركة عن خطف الجندي نسيم طوليدانو، آملة بذلك أن تجري صفقة تكون نتيجتها الإفراج عن عدد من الأسرى الفلسطينيين، تقوم على إثر ذلك سلطات الاحتلال بأكبر عملية إبعاد جماعي بعد عام 1967م، حيث قامت باعتقال وإبعاد أكثر من أربعمائة من قادة وكوادر حماس في الضفة والقطاع، وكانت بهذه العملية ترغب بإبعادهم إلى غير رجعة، ولكنّ صمود المبعدين على الحدود الفلسطينية اللبنانية وثباتهم، لفت انتباه العالم إليهم مما أسهم في عودتهم لتُضخ الدماء من جديد في عروق الحركة.
بعد مجيء السلطة تعرضت الحركة لضغط شديد من قبل الأجهزة الأمنية الفلسطينية بهدف منعها من تنفيذ نشاطات من شأنها إفساد عملية السلام التي كان متوقعاً منها أن تقود لدولة فلسطينية على حدود عام 1967م، وقد تمّ اعتقال عدد كبير من كوادرها وقادتها، ومكث بعضهم في السجون الفلسطينية لفترات متعددة، وكان هذا تنفيذاً للشق الأمني في اتفاقية أوسلو الذي يطالب السلطة الوليدة بمنع أي هجمات من أراضيها تجاه دولة الاحتلال. يجمع المراقبون لمسيرة الحركة تأثرها بالحملة الأمنية التي تعرضت لها من قبل السلطة، ودليلهم على ذلك أنّ مشاركتها العسكرية في انتفاضة الأقصى وعملياتها الكبيرة تأخرت قليلاً لحين استطاعت أن تفلت من القبضة الأمنية وتعيد هيكلة صفوفها وخاصة جهازها العسكري.
شكلت انتفاضة الأقصى نقلة نوعية لحركة حماس على مستوى طبيعة العمل المقاوم، ونوعية النشاطات العسكرية التي تمكنت من تنفيذها سواء في الضفة أو القطاع، وتصاعدت قوتها في غزة التي اعتمدت فيها على طريقة تشكيل الخلايا التي أصبحت فيما بعد أشبه بالجيش النظامي المدرب، وقد ظهر ذلك من خلال الحروب التي خاضتها مع جيش الاحتلال وخاصة الحرب الأخيرة التي ما زال الجيش الإسرائيلي يخفي الكثير من تفاصيلها.
أخطر ما تعرضت له حماس منذ تأسيسها هو الحصار الخانق الذي طال أغلب مظاهر الحياة في قطاع غزة، والذي اشتدّ بعد إزاحة الرئيس محمد مرسي الذي يعتبر حليفاً بصورة ما لحركة حماس، ففي الوقت الذي بدأت فيه حماس تمارس نشاطاً سياسياً احترافياً، كان هناك خشية من السلطة الفلسطينية وحركة فتح بأن تكون حماس البديل الإقليمي لها وخاصة بعد التقارب مع النائب المفصول من حركة فتح "محمد دحلان"، ممّا أدى إلى اتخاذ خطوات عقابية تجاه قطاع غزة مثل تخفيض تزويدها بالكهرباء أو إيقاف رواتب موظفين وغيرها من الخطوات التي مسّت بشكل مباشر حياة المواطن الغزيّ، الذي كان يُعوّل عليه الانتفاض ضد سلطة حماس في غزة.
تزامنت هذه الخطوات مع انتخابات ديمقراطية داخل حركة حماس أنتجت قيادة شابّة، أمضى بعض أفرادها جزءاً كبيراً من أعمارهم في السجون الإسرائيلية، وتحمل هذه القيادة تصوراً ينطلق من التخلص من الحكم وتبعاته في ظل الحصار الخانق، لصالح التفرغ بشكل كامل للبناء الداخلي للحركة وخاصة الإعداد العسكري لأي مواجهة قادمة، وقامت بإيضاح تحالفاتها لصالح كل من يدعم مقاومتها، مع حفاظها على الصورة التقليدية بعدم التدخل في شؤون الغير من الأنظمة، ومن هنا فحماس تبرر تخليها عن الحكم المنفرد لقطاع غزة وعلى أساس شراكة سياسية ووطنية كاملة، ومن هنا انطلقت جلسات الحوار والمصالحة في القاهرة بعد توفر مناخ مصري وإقليمي داعم. وعلى الرغم من تعثر جلسات الحوار فقد أعلنت حماس مضيّها في كل ما من شأنه إنفاذ هذه المصالحة، واضعة خطوطها الحمراء بعدم مسّ المقاومة وتشكيلاتها التي من أجلها تُعدّ عدّتها وترسم خططها.
مرّ على حركة حماس عقود ثلاثة، ولم تفصح الأيام عن تغيير في فكر حماس الذي بدأته عند انطلاقتها، وها هي تعلن من جديد تمسكّها بالعمل المسلح كخيار استراتيجي لتحرير فلسطين، وكأنها تقول لكل من راهن على انكسارها، بأنّ حماس الجديدة هي ذاتها حماس التي انطلقت قبل ثلاثين عامًا بدمها ولحمها وشحمها.