فلسطين أون لاين

​وُرود مسحورةٌ بالمَغاوِر

...
غزة - حنان مطير

لا صوت سوى صوت أقدامِها الخفيفة تغوص في العتمة، تخطو بهدوء ووجَس، تتعمق أكثر وأكثر، فتُفاجِئها الخفافيش في السقف ترشق نفسَها، وتطير بعيداً أو تحوم في دائرة، تضع يدها على قلبِها مذعورةً فتلمس ضرباتِه العنيفة، تُكمِل السير دون أن تلتفت شيئاً للخلفِ، لترى أعشاش العناكب مغزولة بحرفيةٍ في زوايا المغارة، وقلبها يزداد قلقاً كلما غارت وتعمّقت.

تحقّقت من المكان برَويّة، ثم عادت أدراجَها تركض كمهرة مِرحة، وكلّما اقتربت من النور ارتسمت على وجهها الصّبوح ابتسامة انتصار على العتمة والخوف.

التقت بإخوتها الذين يصغرونها وهي تلهث وتلتقط أنفاسها السريعة بصعوبة، وطلبت منهم أن يأتوا بالشمع والمكانس، كي ينظفوا المكان ثم يسكنوا فيه، كانت حينها في عمر العاشرة. تضحك ورود شرباتي (23 عاما)، ابنة القدس والشغوفة بالمغاور، وتروي لـ"فلسطين: "كنسنا المكان ونظفناه جيداً، بعد أن قرّرنا أن نسكن في تلك المغارة، لكن جيشاً من النمل لم يكن ليتوقّف عن السير في صفوف منتظمة، ما دفعنا لتغيير رأينا وكلنا أسف".

وتقول: "كانت المغاور بالنسبة لي سراً كبيراً وعلينا أن نكتشفه، وفي خطواتِ اكتشافه متعةٌ لا تضاهيها متعة، فالطبيعة عشقي، كنت أبحث عن ينابيع الماء بين الحجارة وتحتها، أزحزحها من مكانها أو أنقلها ويا لسعادتي حين أجد ينبوعاً".

تغلغل حب الطبيعة في قلب الفلسطينية ورود، ففي بيتِ جدِها من مدينة الخليليّ قرب الجبال والوادي كان الشغف يتملّكها، وكم كانت تنبطح أرضاً لتلتقط حشرة "أم سليمان" والفراشات والديدان المضيئة قبل أن تذهب بها لوالدتِها كمن يحمل كنزاً ثميناً.

سياحة جبلية

حتى إذا ما اشتدّ عودُها وصارت في عمر الصّبايا، وبلغت الـ23 عاماً، افتتحت أول نادٍ فلسطينيّ "للاستغوار" والسياحة الجبلية، ليتجمّع حولها الشّباب من الجنسين من رام الله والخليل وبيت لحم وغيرها، وينطلقوا لاستكشاف الكهوف والمغاور وتوثيقِها في أجواء مليئة بالحبّ والمغامرة، وذلك من أجل تأهيلها لتصبح وجهات سياحية قبل أن يستولي على تاريخِها المستوطنون اليهود.

حدّثتني بكلماتٍ تملؤها الرّوح: "مُبهرٌ أن يصمت الشباب فجأةً فلا تسمع غير هدوءِ المغارة يضجّ في قلبك، إنها مغلقةٌ عن عالم الحياة الطبيعية وصخبها التقليدي".

وتعشق ورود مغامرة الإنزال والتسلّق والزّحف، وتتقنها بعد أن حصلت على مجموعة من الدورات في الأردن وتونس، ففي أي مكانٍ تخرج إليه في جماعة تجدها تقف على مرتفعٍ أو منطقةٍ خطِرةٍ وغير اعتيادية حتى بات الجميع يمازحها "سنبني لكِ كوخاً فوق عمود كهرباء".

فمن قال: إن البذور لا تنمو في المغاور والكهوف "مُخطئ"، بلى إنها قادرةٌ على النموّ لتصبح "وروداً" فتتجذّر وتنفث العبير وتعطّر الثنايا..