فلسطين أون لاين

​على قارعة العشوائيات حلَّ جسدي

دونًا عن أطفال العالم، لا أستطيع المشي كما يمشي كل الأطفال، فإحدى ساقيَّ نحيلة وضعيفة ومرتخية دائمًا، من يراها من بعيد يخالها قصبة داكنة اللون لا حياة فيها. لم أدرك في طفولتي ماذا يعني هذا، أدركت فقط في طفولتي المبكرة أنني لا أستطيع لعب الكرة أو الركض أو الذهاب للمدرسة، مثل باقي الأطفال الذين يحيطون بي. فأخي الذي يصغرني مثلًا، وأبناء عمي، وأبناء الجيران يفعلون ذلك بقوة ومرونة، ويتسابقون في الأداء، أما أنا فعليَّ أن أجر ساقي التي كانت تشكل عبًا عليَّ، لا ساق أرتكز عليها، فتحمل جسدي وتتحرك به. ما أشعرني دائمًا بأنني أقل منهم، فلولا هذه الساق لكنت إنسانًا آخر تملؤه الحياة والطاقة.

عندما كبرت، علمت أن ساقي مصابة بشلل الأطفال، وعندما سألت والدتي عن سبب إصابتي قالت:

- أنت تعلم تمامًا أننا أسرة فقيرة كحال جميع الأسر التي تسكن هذه المنطقة العشوائية النائية، البعيدة عن جميع الخدمات التي يحق لجميع البشر تلقيها. وكما ترى فإن بيتنا صغير وضيق يضيق بسكانه الأحد عشر، عدا عن كونه رطب ومعتم ولا تدخله الشمس نهائيًا على مدار أيام السنة، هو بكلمات أخرى لا يصلح لأن يسمى بيتًا، ولكن ما نبغي؟ ليس لدينا خيار آخر. وتعلم أيضًا أنني ووالدك لم نتعلم، ولم نذهب لمدارس. كنت أنت طفلي الأول الذي انتظر قدومه لتعم البهجة ديارنا بعد عام من الزواج، جاءني المخاض بعد أشهر الحمل التسعة، وحضرت الداية التي ساعدتني على الإنجاب، وكتبت لنا قيد الولادة الذي أصدر والدك بمقتضاه شهادة ميلادك. لم تخبرنا الداية أنه يتحتم علينا الذهاب بك إلى العيادة في البلدة المجاورة ليعطوك شيئًا يسمى تطعيم، يحميك من المرض المصاب به الآن، ومن أمراض أخرى كثيرة لا أعرفها.

وقبل أن تُنهي عامك الأول كنت تجوب المنطقة أمام البيت مشيًا على قدميك، ومع كل خطوة كنت تخطوها، كان قلبي يزغرد فرحًا بك ويطرب على أولى كلماتك ووقع أقدامك، وأتخيلك رجلًا قويًا وبطلًا من أبطال الحكايات. كنت تلتقط كل ما تلحظ وجوده على الأرض وتضعه في فمك، تمضغه، ثم ما تلبث وتلفظه بعد لحظات، لم ألقِ بالًا لذلك، ولم يداخلني شك بأنه سيصيبك ما أصابك بسبب ذلك.

أُصبت بحمى أوهنت جسدك، وقيء اعتقدنا أنه عارض قريبًا ما يزول، وكنت كثير البكاء شديد الاضطراب، نسيت أن أخبرك بأنك أصبت بإسهال أيضًا أفقدك شهيتك للطعام، وجعل جلدك جافًا، كما لاحظت أن أطرافك متيبسة، وقد فقدت حيويتك التي كانت تعِّمر البيت.

حملك والدك وسار بك مسافة طويلة إلى طبيب في البلدة المجاورة، الذي أخبره بأنك مصاب بالتهاب في الحلق لم يُجدِ معه نفعًا الدواء الذي وصفه لك. وبعد يومين برغم أن الحمى قد خفَّت وتيرتها، ولكنك لم تعد قادرًا على المشي، فإحدى ساقيك مرتخية تمامًا والأخرى ضعيفة لا تحملك.

شخَّصك طبيب في المدينة بأنك مصاب بعدوى اسمها "شلل الأطفال"، لأنك لم تتلق التطعيم الخاص للوقاية منها، والذي كان عبارة عن عدة نقاط تضعها الممرضة في فمك.

هذا ما أخبرتني به والدتي عندما كبرت، فأدركت أني وقعت ضحية للجهل، قبل أن أقع ضحية لعدوى شلل الأطفال، ومنذ ذلك الحين أبيْت إلا أن أذهب إلى المدرسة، وأتعلم كما يتعلم جميع الأطفال، حتى وإن كان الذهاب للمدرسة يتطلب المسير لمسافة طويلة تحت حر الشمس صيفًا، وتحت المطر والبرد شتاءً، بساق ضعيفة يتعبني حملها وجرُّها. فلن أقبل بأن أبقى الفتى "المعاق" (كما يسمونني)، الذي سار الركب ونسوه خلفهم.