فلسطين أون لاين

بين هدنة بلا أفق وتنظيم يعيد بناء ذاته: استشهاد أبو عبيدة يربك حسابات نتنياهو

جاء إعلان كتائب القسام عن استشهاد الناطق باسمها في لحظة تماسٍ حادّة بين هدنةٍ بلا أفق، ومشهد دولي يحاول إعادة هندسة ما بعد الحرب دون أن يفهم بنيتها، في الوقت الذي كان فيه نتنياهو يعرض على البيت الأبيض روايته عن تفكيك حماس ونزع سلاحها، كانت المقاومة تعيد ترتيب سرديتها، بوصفه مرحلة إعادة تموضع.

استشهاد أبو عبيدة جاء كفعل سياسي مركّب، يعيد تعريف العلاقة بين الدم والرسالة، وبين التنظيم والزمن، هنا لا تسعى حماس إلى ملء فراغ ناطق، بقدر ما تؤكد أن بنيتها أوسع من الأفراد، وأن خطابها لم يكن رهين صوت واحد، بقدر ما هو نتاج منظومة قيادة وتجربة قتال أعادت إنتاج ذاتها تحت النار.

في هذا التوقيت بالذات، يصبح الإعلان رسالة مزدوجة: لواشنطن التي تبحث عن مرحلة ثانية بلا مضمون، ولنتنياهو الذي يصرّ على وهم الإنهاء، فيما الوقائع الميدانية والتنظيمية تقول إن ما جرى هو انتقال من طور الاستنزاف إلى طور إعادة البناء الهادئ، وبين هدنة تُدار بلا رؤية، وتنظيم يرمم ذاته خارج الضوء، تُربك حماس حسابات خصومها، ببرودة الرسائل المحسوبة.

سياسة التوقيت: لماذا الآن؟

اختيار لحظة الإعلان عن استشهاد أبو عبيدة يُقرأ كتحريك دقيق على رقعة الشطرنج السياسية، في وقت كان فيه نتنياهو يجلس في البيت الأبيض إلى جانب ترامب، مستعرضاً خططه لإعادة هندسة المرحلة الثانية من الهدنة، جاءت رسالة القسام لتعيد ضبط المعادلة، وتحوّل الشكليات الدبلوماسية إلى مجرد خلفية لمواجهة أكثر عمقاً.

التوقيت هنا يحمل ثلاثة أبعاد استراتيجية:

الأول، البعد الرمزي: إعلان الاستشهاد في اللحظة التي يجلس فيها عدو المقاومة في مركز صنع القرار العالمي، يربك الحسابات ويقلب الطاولة على من يظن أنّ الحرب انتهت على الورق.

الثاني، البعد النفسي والسياسي: تذكير "إسرائيل" بأن المقاومة ليست رهينة خطاب سياسي ولا زماناً دبلوماسياً، وأن بنيتها لا تنهار مع سقوط الناطق باسمها.

الثالث، البعد الرسائلي للداخل والخارج: حماس ترسل إشارة مزدوجة؛ للمواطنين في غزة، بأن المقاومة مستمرة وقادرة على إعادة ترتيب صفوفها، ولخصومها بأن أي محاولة لفرض سردية ما بعد حماس ستصطدم بحقيقة معادلة القوة على الأرض.

باختصار، التوقيت مثّل إعادة تموضع استراتيجي للرسالة قبل أن يبدأ الآخرون بفرض رؤيتهم.

تفكيك وهم الشخصنة

التركيز الإعلامي التقليدي على الشخصيات يُنمي وهماً بأن النهاية مرتبطة بسقوط الفرد، وحماس بهذه الخطوة، تكسر وهم الشخصنة، فاستشهاد أبو عبيدة لا يعني فقدان الصوت، بقدر تأكيد أن البنية التنظيمية أوسع وأكثر مرونة من أي عنصر فردي، وذلك من خلال:

- إعادة إنتاج الخطاب: الرسائل التي تصدر عن القسام بعد الاستشهاد تظهر تصميماً على استمرار الإيقاع الإعلامي والسياسي، بما يعكس قدرة التنظيم على استيعاب الصدمات الداخلية وتحويلها إلى قوة تنظيمية.

- الرصيد الرمزي: استشهاده فتح المجال لإعادة توزيع الرموز والوظائف، مع الحفاظ على وحدة الخطاب ومصداقيته.

- الاستدامة السياسية: هذه الخطوة تؤكد أن حماس تنقل محور قوتها من الأشخاص إلى الهيكل، بما يجعل المقاومة أقرب إلى مؤسسة متماسكة لا تتوقف عند فقدان أي عنصر.

رسالة مختصرة من القسام تقول للعالم إنه ليس شخصاً يموت، الناطق يُمثّل معادلة مستمرة تتخطى الصدمات.

الهدنة كفراغ استراتيجي

الهدنة في هذه المرحلة تحوّلت إلى مساحة ارتباك صهيوني، في غياب خطة واضحة للمرحلة الثانية، أصبحت الهدنة بيئة اختبار حقيقية لموازين القوى، لا لحظة تثبيت إنجاز، وهذا واضح في أنّ:

- فراغ الرؤية الصهيونية: بدون أهداف محددة، هدنة نتنياهو–واشنطن تحولت إلى هدنة بلا أفق، حيث لا يعرف الطرف الصهيوني كيف يستثمر اللحظة أو يُحقق مكاسب ملموسة على الأرض.

- الاستغلال التنظيمي للفراغ: حماس تستفيد من هذه الفترة لإعادة ترتيب صفوفها، وبناء الثقة الداخلية، وترسيخ شبكة قيادة بديلة، ما يجعل أي استهداف مستقبلي أقل فعالية وأكثر تكلفة.

- إعادة تعريف المواجهة: الهدنة أصبحت أداة زمنية للمقاومة لإعادة إنتاج قوتها، وللخصم لتجربة هشاشته في غياب خيارات واضحة.
باختصار، ما يبدو أنّه سكون على الأرض هو في الحقيقة مساحة ديناميكية للمقاومة لإعادة رسم قواعد اللعبة، بينما العدو يحاول فهم قواعد لم تعد تحت سيطرته.

ما الذي تغيّر داخل حماس؟

ما يحدث داخل حماس بعد استشهاد أبو عبيدة هو إعادة بناء صامتة لكنها محكمة، تُعيد ترتيب الهيكل التنظيمي والقيادي بهدوء، دون الإلتفات إلى الضجيج الإعلامي*، كما يُعاد تشكيل نسيج مقاومة متماسك، وذلك بالتأكيد على:

- توزيع الأدوار: تعيين أو تحريك القيادات الجديدة في مواقع حساسة يضمن استمرار الوظائف الحيوية للتنظيم دون إضعاف الخطاب السياسي أو العسكري، وهذه الخطوة تحوّل الخسارة الرمزية إلى فرصة لتجربة نماذج قيادة أكثر مرونة.

- استعادة الانضباط الداخلي: الأحداث الأخيرة تُظهر قدرة حماس على ضبط الإيقاع الداخلي، وتقليل الاحتكاكات بين الأجنحة المختلفة، مع الحفاظ على وحدة القرار، وهذا الانضباط يُمثّل استراتيجية للبقاء في مواجهة الضغوط والتهديدات.

- مؤشرات إعادة التنظيم: التدريب المستمر، تحديث آليات الاتصالات، وتعزيز الأمن الداخلي، واستمرارية العمل الإعلامي، كلها عناصر تُظهر أن التنظيم دخل مرحلة التموضع التكتيكي طويل المدى.

باختصار، إعادة البناء الصامت تؤكد أن حماس ليست رهينة فقدان عناصرها، بقدر ما هي قادرة على تحويل الصدمة إلى قوة إنتاجية داخلية.

مأزق نتنياهو: نزع السلاح أم إدارة الفشل؟

التصريحات الصهيونية المتكررة حول نزع سلاح حماس تكشف عن فجوة بين الأهداف المعلنة والواقع الميداني، فاستشهاد أبو عبيدة يسلط الضوء على مأزق نتنياهو، فبينما يسعى لإقناع واشنطن بأن الحرب قد أزالت تهديد المقاومة، الواقع على الأرض يقول العكس، وهنا نُركز على ثلاث نقاط:

أولاً، استحالة تحقيق أهداف الحرب: حيث فقدت "إسرائيل" القدرة على تحقيق نزع السلاح أو تحييد المقاومة بشكل كامل، وأصبح كل حديث عن مرحلة ثانية بلا مضمون، مجرد أوهام دبلوماسية.

ثانياً، انعكاس على الخطاب السياسي: داخلياً يزيد المأزق الضغط على نتنياهو لتفسير إخفاقاته، بينما خارجياً يصبح خطاب الإدارة الأمريكية حول الحلول الفوقية محل تشكيك.

ثالثاً، معضلة القوة مقابل الواقع: كل خطوة صهيونية محسوبة على أنها ضغط تُقابلها المقاومة بإعادة تنظيم نفسها، ما يحوّل أي محاولة لإنهاء القوة الصاروخية أو العسكرية لحماس إلى مشهد استنزاف مزدوج.

النتيجة هي أن أي خطاب صهيوني عن النجاح العسكري يتحول إلى بيان ضعف مقنّع، بينما حماس تعيد إنتاج نفسها بصمت لكنها استراتيجية.

الرسالة إلى واشنطن: حماس خارج معادلة الإملاء

جاء إعلان الاستشهاد في توقيت بالغ الحساسية ليحمل رسالة واضحة إلى واشنطن مفادها أن المقاومة ليست طرفاً قابلاً للإدارة من الخارج، ولا مادة خاماً لمشاريع تسوية تُصاغ فوق الطاولة الدولية، وفي لحظة تحاول فيها الإدارة الأمريكية، بالشراكة مع حكومة الاحتلال، بلورة ملامح مرحلة ثانية تُدار بمنطق الإملاء السياسي، جاء الفعل القسامي ليُربك هذه المقاربة ويعيد التأكيد على أن أي هندسة سياسية لا تنطلق من فهم حقيقي لديناميات المقاومة محكومة بالفشل المسبق.

الارتباك الأميركي–الصهيوني الذي أعقب الإعلان كان ناجماً عن إدراك متأخر بأن أدوات الضغط التقليدية فقدت فعاليتها، فبدل أن يساهم الإعلان في إضعاف موقع حماس، أعاد تثبيتها كفاعل لا يمكن تجاوزه في أي مسار تفاوضي، وقادر على إعادة تعريف موازين القوة من موقع الفعل الميداني لا من موقع رد الفعل السياسي.

الرسالة الأعمق التي حملها التوقيت هي أن قواعد اللعبة القديمة لم تعد صالحة، ولا يمكن فرض الحلول من أعلى، ولا تمرير اتفاقات تتجاهل الواقع التنظيمي والميداني للمقاومة، لأن الفعل الحقيقي يُصاغ في الميدان قبل أن يُدوَّن في غرف التفاوض، وأي مسار سياسي لا يعترف بهذه الحقيقة يبقى مجرد نص دبلوماسي هش، سرعان ما يتهاوى أمام أول اختبار فعلي.

في هذا السياق، تعيد حماس رسم معادلة التفاوض الدولية من موقع القوة المتراكمة، واضعة واشنطن أمام خيارين لا ثالث لهما: إما التكيّف مع واقع لم تعد تتحكم بكل مفاتيحه، أو الاستمرار في إنتاج خطط تُولد ميتة قبل أن ترى النور

ما بعد الاستشهاد: المقاومة فعل مستمر

يُقرأ استشهاد أبو عبيدة بوصفه مدخل إلى مرحلة جديدة من الاستدامة الاستراتيجية للمقاومة، فالخطاب الذي تلا الإعلان لم يتوقف عند حدود الرثاء، وإنّما انزاح سريعاً نحو تأكيد القدرة على الاستمرار، وعلى تحويل الخسارة إلى جزء من دورة الفعل لا نهايته.

في هذا السياق، تُفكك المقاومة وهماً طالما راهن عليه الاحتلال، وهو أن اغتيال القادة يفضي تلقائياً إلى تفكك التنظيم، أما ما يحدث فعلياً هو العكس تماماً؛ إذ تتعامل المقاومة مع الاستشهاد باعتباره خبرة تراكمية، تُغذّي بنيتها التنظيمية وتمنحها قدرة أعلى على التكيّف.

إعادة تعريف القوة تظهر بوضوح في التفاصيل الصغيرة قبل الكبرى: في انتظام العمل التنظيمي، وفي تماسك الخطاب الإعلامي، وفي القدرة على ضبط الإيقاع السياسي والعسكري في آن واحد، وكل خطوة داخل غزة، وكل رسالة تُطلق في التوقيت المحسوب، هي جزء من عملية طويلة النفس تهدف إلى إعادة رسم حدود الاشتباك وتحويل الخسائر الفردية إلى أصول تنظيمية ومعنوية.

نتنياهو وواشنطن يواجهون اليوم معادلة صعبة، وهي أنّ كل محاولة لتفكيك المقاومة أو نزع سلاحها تصطدم بعقلانية التنظيم وهدوء صموده، بينما تُعيد المقاومة ترتيب صفوفها بلا ضوضاء، لتثبت أن القوة الحقيقية في القدرة على الاستدامة والإنتاج المستمر للفعل السياسي والعسكري.

ما بعد الاستشهاد فهي مرحلة إعادة تموضع شاملة، تؤكد أن المقاومة ظاهرة متواصلة تتكيف مع الضغوط، وتعيد إنتاج نفسها بذكاء وعمق، وفي هذا السياق فإن كل خطاب صهيوني أو أمريكي عن التفوق العسكري أو الإنجاز السياسي يصبح اختباراً للواقع.

في النهاية، الدرس الواضح هو أن المقاومة لا تموت مع أبطالها، لكنها تحيا في بنية أوسع، استراتيجية أكثر، ورؤية أعمق، لتبقى المعادلة على الأرض دائماً خارج حسابات خصومها المباشرة.

المصدر / فلسطين أون لاين