في صباحٍ باردٍ من شتاء غزة، يرقد أحمد سلطان الهواري (30 عامًا) على سريرٍ لا يفارقه، محاطًا بذكرياتٍ أثقل من جسده المصاب، وبمسؤولياتٍ تفوق طاقة شابٍ في عمره، فوضعه لا يقتصر على إصابته بطلقات رصاصيه، بل حكاية إنسانٍ سار خلف إشاعة أمل، فوجد نفسه محاصرًا بين عجزٍ دائم، وفقدٍ موجع، وحملٍ عائلي ثقيل لا ينام معه الليل.
في 25 ديسمبر/كانون الأول 2023، انتشرت إشاعة مفادها أن من يرغب بالعودة إلى غزة يمكنه التحرك بعد وقف إطلاق نار استمر لأيام في شهر نوفمبر من العام ذاته، لم يتأكد أحمد من صحة الخبر، ولم يمنحه الوقت فرصة للتفكير.
يسرد لصحيفة "فلسطين" أنه تحرك بدافع الشوق، متتبعًا نداء المكان الذي يسكنه وتركه قسرًا، ورافقه شاب لا يعرف هويته، جمعتهما لحظة أمل قصيرة في طريقٍ محفوف بالمخاطر، عند وصولهما إلى منطقة ما يسمى "نتساريم"، تحول الأمل إلى مأساة؛ إذ أطلقت طائرة مسيّرة للاحتلال طلقات نارية باتجاههما، فاستُشهد مرافقه على الفور، فيما أُصيب أحمد بطلقين ناريين غيّرا مسار حياته إلى الأبد.

ففي تلك الساعات الثقيلة، كان والده سلطان يشعر بأن شيئًا ما ليس على ما يرام، غاب أحمد عن البيت، وحاول الأب مرارًا الاتصال بهاتفه المحمول، لكن انقطاع الشبكة جعل الصمت سيّد الموقف.
يقول: "أخبرني والدي أنه لم يملّ من المحاولة؛ فكيف لقلب أب أن يهدأ وفلذة كبده لا يعرف مصيره؟" ومع ساعات الفجر الأولى، عاد الإرسال، ورنّ الهاتف، كان أحمد على الطرف الآخر، يُخبر والده بمكانه وبما حدث له.
ومع بدء طلوع خيوط الشمس، وصل الأب إلى المكان، وجد ابنه ينزف، غائبًا عن الوعي، وقد فقد وعيه ثلاث مرات قبل أن يستعيده، حمله على كتفيه ومشى به أمتارًا قليلة، لكن طائرة "كواد كابتر" لم تتركهما وشأنهما، اقتربت ومنعتهما من التحرك، توسّل أحمد إلى والده أن يتركه ويعود لينجو بنفسه، إلا أن سلطان ابتعد قليلًا ثم عاد وحمل ابنه من جديد، ليسعفه تحت النار.
ويتابع أحمد سرده للأحداث التي مر بها: "لم يتوقف والدي عند ذلك، أعاد حملني وسار بي مسافة تقارب 2 كيلومتر، حتى وصلا إلى منطقة الدعوة عند بداية مخيم النصيرات"، هناك، انتبه لهما عدد من الشبان، فسارعوا لمساعدته، وتناوبوا على حمل أحمد حتى وصلت سيارة الإسعاف التي نقلته إلى مستشفى شهداء الأقصى.
وقد أظهرت الفحوصات الطبية أن أحمد أصيب برصاصة في الحوض، وأخرى بين الفقرتين الرابعة والخامسة من العمود الفقري، إضافة إلى شظايا أصابت النخاع الشوكي، ما أفقده الإحساس بالأطراف السفلية، وكان قد وصل في وضع صحي بالغ الصعوبة، يعاني من نزيف حاد استدعى تزويده بوحدات دم، ثم خضع لعملية جراحية عاجلة، لتبدأ بعدها رحلة علاجٍ طبيعي طويلة وشاقة.
وغير أن ما زاد وضعه النفسي سوءًا كان استشهاد والده بعد خمسة أشهر فقط من إصابته، رحل الأب الذي حمله تحت النار معرضًا حياته للموت عدة مرات، ووقف بجسده درعًا لنجاته، ليترك أحمد وحيدًا في مواجهة واقعٍ قاسٍ، حيث وجد نفسه مسؤولًا عن إعالة والدته وشقيقتيه، وهو عاجز عن الحركة والعمل، ويتابع أحمد: "الحمل ثقيل فوق رأسي، لا أنام الليل وأنا أفكر… كيف سأؤمّن لهم الحياة وأنا لا أستطيع الوقوف؟"
تعيش الأسرة اليوم في بيتٍ مدمّر بمنطقة "عسقولة"، لا يقيهم برد الشتاء ولا مطر السماء، ومع كل منخفضٍ جوي، تغرق الغرف بمياه الأمطار، ويقف أحمد عاجزًا عن حماية عائلته من البرد والرطوبة، وإلى جانب ذلك، ينتظر فتح معبر رفح بعد أن صدرت له تحويلة علاجية وتغطية مالية لاستكمال علاجه في الخارج؛ انتظارٌ يطول، فيما تتعاظم الحاجة.
فالشاب أحمد يدفع ثمنًا فادحًا، فلا يقوى على تحريك جسده، ووالده شهيد، وبيت عائلته مهدم، ويتمسك بأمل وحيد أن يأتي يومٌ تُفتح فيه أبواب العلاج، وتستعاد فيه بعض كرامةٍ سُلبت منه، ويُمنح الإنسان فرصةً عادلة للحياة.

