فلسطين أون لاين

تقرير غموض يبتلع مصير "علي".. اعتقال دون تهمة وأم تخشى وصول خبر استشهاده

...
الشقيقان الصغيران جواد وأسامة الهشيم
غزة/ جمال غيث:

في كل صباح، يحمل الشقيقان الصغيران جواد وأسامة الهشيم، دفئ أمل لا يكاد ينجو من البرد، وينطلقان بين خيام النزوح في محيط ميناء غزة، بحثًا عن أي خبر قد يقود إلى ابن عمّهما علي الهشيم، الشاب الذي لم يتجاوز التاسعة عشرة حين ابتلعه "حاجز الموت" شمالي قطاع غزة في السابع عشر من نوفمبر/تشرين الثاني 2024.

ومنذ ذلك اليوم، تحول مصير "علي" إلى لغز مؤلم لا تملك أسرته سوى القلق لتفسيره.

عائلة الهشيم، التي فقدت منزلها شمال القطاع، بعد تدميره خلال الاجتياح الإسرائيلي، في سبتمبر 2024، وجدت نفسها بين ليلة وضحاها في خيمة تفتقر لكل مقومات الحياة.

لم تكن خسارة المنزل أقسى ما واجهته العائلة، بل كانت الصدمة الأكبر حين أجبر جيش الاحتلال آلاف المدنيين على النزوح جنوبًا عبر "حاجز الإدارة المدنية"، حيث جرى اعتقال العشرات بشكل تعسفي، من بينهم "علي" دون توجيه أي تهمة أو السماح لعائلته بالتواصل معه.

ويستذكر أسامة الهشيم، ابن عم المعتقل، اللحظة التي أدركوا فيها أن "علي" لم يعد بينهم قائلاً لصحيفة "فلسطين": "كنا نمر بالحاجز ذاته، نسأل كل أسير محرر عن مصير علي، علّ أحدهم يخبر أمه بأي معلومة تُخفف وجعها، لكن الحاجز كان أشبه ببوابة مجهولة، يبتلع الناس ولا يعيدهم.

نظرة أخيرة

أما شقيقه الأكبر، عمار الهشيم، فيروي تفاصيل الساعات الأخيرة قبل فقدانه: "عندما حاصر جيش الاحتلال المناطق الشمالية ودفعنا شرق بيت لاهيا، أجبرونا على المرور عبر ما يسمونه "الحاجز الآمن" هناك تم فصل الرجال والشبان عن النساء، واعتُقل علي، ولم نعرف السبب، ولم يسمحوا لنا حتى بإلقاء نظرة أخيرة عليه.

ومنذ ذلك اليوم، لا تملك العائلة سوى ما يورده الأسرى المحررون من شهادات متفرقة: علي احتُجز بداية في سجن "سدي تيمان" لمدة سبعة أشهر، ثم جرى نقله إلى سجن "عوفر" ولاحقاً إلى "النقب".

ويضيف الهشيم: ورغم ذلك، لا يوجد أي تأكيد رسمي من سلطات الاحتلال، التي تواصل التكتم على أسماء ومصائر المعتقلين من غزة منذ بدء الحرب.

ويمضي عمار: "نتابع كل خبر، كل منشور، كل شهادة أسير محرر، الاحتلال يخفي أسماء المئات، نخشى أن يكون شقيقي بينهم".

على مقربة منه، تقف والدته، التي فقدت زوجها قبل الحرب بفيروس كورونا، ثم مصدر قوة أسرتها، ابنها الأكبر "علي" الذي كان يعيل أشقاءه الستة ويستعد لاستكمال دراسة تمديد شبكات الإنترنت.

وتقول الهشيم لصحيفة "فلسطين" وهي تحبس دموعها بصعوبة: "اعتقلوا ابني دون سبب، لم يكن منتمياً لأي جهة، ولم يحمل سلاحاً، كان حلمه بسيطاً يعمل ويكمل دراسته ويحمينا، لماذا لم يعود؟ لماذا لا يخبروننا أين هو؟".

وتكشف الأم أنها علمت بخبر اعتقاله من خلال شهادات أسرى محررين فقط، وليس ببيان رسمي كما ينص القانون الدولي، مضيفة: "كنت أقول لنفسي إنه سيعود بعد شهر، هو لا يشكل خطراً على أحد، واليوم أخشى أن يصلني خبر استشهاده، فالاحتلال لا يخاف الله".

1bef7b88-b5d0-429e-bf4a-3d2ba3f6b156.jpg
 

مأساة مركبة

وتعيش العائلة اليوم مأساة مركبة خيمة لا تقي حر الصيف ولا برد الشتاء، فقدان المعيل، وانعدام الأمن الغذائي والمائي، لكن الخوف الأكبر، كما تقول الأم، ليس الفقر بل ما قد يحدث لابنها داخل السجون: "اسمع عن الشهداء داخل المعتقلات، عن التعذيب والجوع والمرض، كل ليلة أتخيل أن علي بينهم، أرجو كل مؤسسة وكل جهة مسؤولة أن تنقذ أولادنا قبل أن نفقدهم".

وتعكس مخاوف الأم واقعاً يزداد قتامة يوماً بعد يوم، فبحسب مركز فلسطين لدراسات الأسرى، ارتفع عدد الشهداء من معتقلي قطاع غزة داخل سجون الاحتلال إلى 50 شهيداً معروفين بالاسم منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، في حين تؤكد المؤسسات الحقوقية أن العدد الحقيقي أكبر بكثير، نظراً لاستمرار الاحتلال في إخفاء أسماء ومصائر مئات المعتقلين.

ويشير المركز إلى أن سلطات الاحتلال شنّت حملات اعتقال غير مسبوقة، تجاوزت 14 ألف معتقل من غزة فقط، رافقها تعذيب ممنهج وسوء معاملة وحرمان من الرعاية الطبية، ما أدى إلى ارتفاع خطير في أعداد الأسرى المرضى ومن بينهم حالات وصلت إلى حافة الموت.

وفي ظل هذه المعطيات، تقول مؤسسات حقوقية إن ما يجري يرتقي إلى جريمة اعتقال تعسفي وإخفاء قسري، قد تصل عواقبه إلى مستوى جرائم الحرب، خصوصاً مع وجود أدلة متزايدة على استشهاد معتقلين تحت التعذيب أو بسبب الإهمال الطبي.

وبالنسبة لعائلة الهشيم، لا تعنيهم الأرقام بقدر ما يعنيهم مصير واحد، هو مصير "علي". وتقول الأم في نهاية حديثها: "لا أريد شيئاً من هذا العالم سوى أن أعرف إن كان ابني حياً، وإن كان بين الأحياء، فليُعيدوه لي، وإن كان شهيداً، فليقولوا لنا، هذا التعذيب النفسي لا يرحم أحداً".

وبينما تستمر رحلة البحث اليومية التي يقوم بها "جواد وأسامة" بين الخيام ومواقع تجمع الأسرى المحررين، تبقى صورة "علي" معلقة على عمود بجانب خيمتهم؛ صورة لوجه شاب كان يحلم بحياة بسيطة، قبل أن يتحول حلمه إلى غياب طويل، لا تملك عائلته سوى الدعاء لكسره.

المصدر / فلسطين أون لاين