فلسطين أون لاين

​ثمانون عامًا من العمل والعطاء

الكادِحة الرَّشيقة.. حكاية بين أزقّة مخيم الشاطئ

...
غزة - حنان مطير

زقاقٌ رفيعٌ طويلٌ يمرّ بين بيوتٍ أرضيةٍ "أسبستية" مصفوفة بانتظام على الجانبين، أحبال الغسيل مربوطةٌ من طرفيها بموازاة جدران البيوت.. بعض الأبواب الحديدية لتلك البيوت مفتوحة ومسدول عليها ستائر من قماش تخفي الكثير من خصوصية أهلها عن عيون المارّة في مخيم الشاطئ غرب غزّة.

سرتُ في ذلك الزّقاق الواقع إلى الشرق من قهوة غبن الشهيرة في ذات المخيم، لأقابل الحاجة خديجة حجّي البالغة 88 عامًا، وقفتُ أمام بابِها المفتوح لأتأكّد إن كان ذلك بيتها حسب ما وصفوا لي أم أنني أخطأت في البحث، لم أُطِل التفكير، إذ رمقتني وهي منحنية الظهر قليلًا وتُنشِّف ذراعيها اللتين تقطران من ماء الوضوء لصلاة الضّحى، وسرعان ما ابتسمت ملامحُها وقالت: "تفضلي يا ستي.. ليش واقفة على الباب؟!".. فدخلتُ منشرحةً وروحي طَرِبةٌ لكلمة "سِتّي".

أرجوحة أطفال الحارة

إلى يسار باب البيت مباشرة نُصِبت أرجوحةٌ وفوقها مجموعة من الأطفال يتأرجحون وضحكاتهم تداعب الهواء، فيما الطفلة ليلى البلعاوي -4 سنوات- تمسك" القشاطة" ذات العصا المكسورة لتناسب طولَها، وتتخلص من المياه المتكومة في ساحة البيت المتواضع كسيدةٍ رشيقةٍ نشيطة، فتلاقي تشجيعًا ومديحًا من الحاجة "الله يرضى عنها "لالي" ويكبرها ويسعدها"، تدلّعها "لالي".

عرّفتُها بنفسي وجلستُ برفقتها قرب ماكينة خياطةٍ يدويةٍ قديمة وعليها الكثير من الأقمشة والأزرار ومِسبحة ذهبية، تلك الماكنة صاحِبتها لآخر عمرِها، حتى وإن قلّ الطلب على الخياطة والتفصيل وبات الغالبيةُ يتوجّهون للجاهز والمستورد، توضّح.

ذلك الأمر دفعَها للعمل في الزراعة في عمرها الأربعين داخل أراضينا المحتلة عام 1948 (إسرائيل)، تحكي لفلسطين: "كنت أخرج مع جارتي مع أذان الفجر أو قبله، وأصلي الفجر في الطريق، أعمل في الزراعة من بداية العزق حتى الجني وأعود محملةً بكل ما تشتهي بناتي وما لا تشتهي، كنت نحيفةً نشيطةً سريعةً في العمل حتى اعتادوا ذلك، وحين كان يصفُّ العّمال داخل "الأراضي المحتلة" جنبًا إلى جنب، يختارني صاحب العمل "اليهودي" قبل كل النساء والرّجال لأعمل في أرضِه".

وتواصل: "كنت أخبر صاحب العمل بأنهم محتلّون وأننا أصحاب الأرض وأننا نعمل في أرضِنا لا أرضهم، فيصمت ولا يردّ بكلمة لأنه يعرف الحقيقة وأحيانًا يردّ: "الذنب ليس ذنبي بل ذنب أبي وجدّي"، تبتسم وتعلّق: "كنت "بَلَطّش شوية" عبري".

تقطع الحاجة حديثنا لتنبه "لالي" ألا تصل بالماء الذي تسحبُه إلى الخبز التالف المتروك تحت الشمس لينشف، وتمتثل الصغيرةُ لكلامها، فالجيران من أهل الحارة يرسلون إليها الأرز التالف والخبز أيضًا لتطعمه للدجاجات اللواتي تربيهنّ في قفصٍ داخل بيتِها، سألتُها عمّا تفعل به فهو كثير للغاية، فردّت:" أطعم دجاجاتي ما يكفيهنّ أما الباقي فأجففه وأعلِّقه بالملاقط على حبلٍ وأجمّعه في أكياس كبيرة، وأبيعه لأصحاب المزارع الحيوانية بمبلغ جيد أعيش منه".

دعينا نرى كيف تفعلين ذلك.. وقَفَتْ بحماسٍ وسعادة لتُطلِعني على عملها، واتجهت لتلك الغرفة الصغيرة، وراحت تعلّق قطع الخبز على الأحبال بدقةٍ ورويةٍ لا أظنّ إحدى الصبايا تملك بالًا طويلًا لفعل ما تفعله.

يؤنسها الأطفال

"بس انت واياه.." علَت الحاجة بصوتِها لِيسمَعَها الأطفالُ بعد أن ألقت الخبز والملاقط من يديها، فقد كان أولاد الجيران يمرحون في بيتها وكأنهم أصحابه، وللحظات لم نسمع لهم صوتًا ثم سرعان ما عادوا لضجيجهم، تعلق: "أحبهم، فهم أحباب الله لكن إن أزعجوني أنهرهم، ورغم ذلك لا يخافونني"، تضحك وتكمل: "من أنهره أراضيه بقطعة حلوى من تلك التي أبيعها في البيت".

تشير إلى زاويةٍ في بيتها، وضعت فيها الحلوى "والشيبس" والسكاكر والملح والسكر و"الإندومي" والبيض وأشياء أخرى بسيطة مما تحتاجه الأسرة، "هذه أشياء يحبها الأطفال وتحتاجها الأم في مطبخها، أشتريها من تاجر الجملة وأبيعها هنا وأربح فيها شيئًا يسيرًا يعيلني ويجعلني لا أحتاج أحدًا، والحمد لله"، وهذا عملٌ بسيط آخر إلى جانب تجفيف الخبز، تسرد: "طول عمري أدعو الله ألا يحوجني أن أمدّ يدي لأحد، وها أنا كذلك والحمد لله".

ندمانة

تزوّجت خديجة في عام 1945 وكانت آنذاك في الخامسة عشر، وفي عمر السابعة عشر أنجبت مولوداً ذكراً، لم يُكتب له أن يعيش أكثر من أسابيع ثلاثة، ففارق الحياة رضيعاً وتم دَفنه في صحراء وادي النّمل بجوار عسقلان، تعبّر:" وكأنني دفنتُ روحي معه"، ومن بعدها حلّت نكبة الاحتلال عام 1948 وكانت آنذاك في أواخر السابعة عشر.

خديجة أم لأربعة نساء كبراهنّ اسمُها بُشرى أنجبتها عام 1949 .."بشرى هي بِكري، من زوجي الأوّل، طلّقني امتثالًا لثقافة "زواج البدل" التي كانت سائدة أيام زمان، كنا نعيش بحبّ كبير، أخبرت أمي أنني سأغامر بأغلى ما أملك لو أجبروني على الطلاق منه، وأنني سأترككم وأهرب لزوجي"، ولكن الطلاق وقع رغمًا عن كليهما ولم تجرؤ خديجةُ حينها على المغامرة. تروي حكايتها القديمة لـ"فلسطين" حين كانت في أوائل العشرينات.

تملّكت الحسرةُ قلبَ خديجة خاصة لما رأت رضيعتها على يديها، وراح الحزن يأكلها دون أن يترك في قلبِها بصيصًا من فرح، فبكت حتى كادت أن تفقد صوابَها، توضح: ""ندمانة" على الطلاق حتى اليوم، "ليش" يكذب الواحد، والله ندمانة، أنا ظلمت نفسي بقبول الأمر وعدم التَّفاني في الدفاع عن حقّي في البقاء مع زوجي"، وتستكمل: "أمضيت ما يقارب العشرين يومًا لا آكل سوى لقمة عصفور، لم أملك حينها القدرة على تناول الطعام أو العيش بشكل طبيعي ولا العودة لعملي في الخياطة".

ولع بالخياطة

كانت خديجة مولعة بالخياطة، تعشقها بجنون، تقول: "تعلمتها حتى أصبحتُ أخيّط كل ما يطلبه أهل قريتي والقرى من حولي قديمًا، وأهل مخيم الشاطئ فيما بعد، ففي عمر الخامسة عشرة "أيام البلاد- قبل الهجرة من بلدتها الجميلة "الجورة""، كنت أذهب لجارتي وأطلب منها أن تعلّمني".

تقول لجارتِها: "علميني أدرز على الماكينة"، وجارتها تردّ:" يا بنتي ممكن الماكينة تتعطل".. وتختم الحديث معها بالدعاء الدارج وغير المقصود "الله يخرب بيتِك ما أقواكِ"، لكنها علّمتها شيئًا كثيرًا.

وبعد الهجرة احترفتْ خديجة الخياطة، كانت تسكن في الخيمة مع أهلِها وابنتِها، ككل المهجّرين.. ذهبت لتملأ الجِرار بالماء من أحد بيوت المواطنين في غزّة، تروي: "هناك رأيت صاحبة البيت تجلس أمام الماكينة، كانت "عكّاوية" طيبة، ما زلت أدعو لها بالخير حتى اليوم لشدة طيبتها، سألتها أن تعلّمني فوافقت بمقابل ماديّ، ثم قالت سأفحصك".

سألتُها وقد سرح فكري في الفحص الطبّي مستغربةً، ماذا تعنين بـ"الفحص"؟! فردت: "يعني تعمل لي "Test"، قبل أن تعلمني، قالتها وابتسمت، وما ألطَفها حين لفظتها وفسّرتها لي باللغة الإنجليزية.

في تلك المرحلة، كان تَعَلُّم الخياطةِ شغلَها الشاغل، فإذا جاءت لتلك المُعلّمة صباحًا ووجدتها ما تزال نائمة، أو منشغلة في أعمال البيت، تساعدها مستثمرةً رشاقتها وسرعة حركتِها، تعلّق: "كانت "العكاوية" تستغرب من سرعتي وتحبني".

وتوضح: "لشدة حبي لتعلم كلّ شيء، قررت أن أستخدم "ماكينة الرِّجل "ولم تكن صاحبة البيت موجودة، ولم أكن قد تعلّمت عليها بعد فدرزتُ إصبعي لتخرج الإبرة من جِهتي الإصبع".

شوق للتعليم.. وحرمان

وتقول: "كنت أخيط "جهاز العرائس" من ألفه إلى يائه، لا أنام الليل لشدة انشغالي، أما المقاس فكنت أحدّده على "حبل" فأنا لا أقرأ ولا أكتب، رغم أنني بكيت بكاء شديدًا ورجوت والدي كثيرًا أن يعلّمني إلا أنه رفض أن يعلّم البنات من أولادِه وعلّم الذكور"، لقد كانت ثقافة غالبة للأسف.

في عمر السادسة كانت خديجة تذهب إلى مدينة "المجدل" خفيةً حيث الصفّ الذي يتعلّم فيه الطلاب فتنظر إليهم من النافذة وتبكي لشعورِها بالظلم ولعدم موافقة والدِها على تعليمِها وهي التي تعشق القراءة والكتابة -حسب قولِها-.

وذات مرة وفي نفس العمر، خرجت إلى البساتين الواسعة في مدينة المجدل، تمسك بعصاها التي تفوق طولَها، تصاحبها أغنامُها لترعى العشب الطريّ، فتجد صديقتَها من عائلة "السنوار" تحمل حقيبة وتلبس مريولًا مدرسيًا جميلًا وقد عادت من مدرستِها لتجلس تحت شجرة الزيتون في أرض والدِها الواسعة، تلك التي جاءت إليها خديجة.

تروي: "طلبتُ منها أن تعلمني الحروف، وقد علّمتني كثيرًا منها ما زلت أحفظها حتى اليوم، تنتقل من شجرة لأخرى وأنا أتبعها حتى لا يغيب عني حرف"، وبكل عفويةٍ وشوقٍ للغة العربية وحروفِها طلبت خديجة من ابن الجيران الذي جاء ليؤنسها أن يحضِر لها من المطبخ علب الملح والسكر والبهارات كي تقرأ لي ما كُتب عليها، كانت تشير إلى الحرف وتنظر إليّ وتلفظ حرفًا حرفًا، حتى غَمَرَتْها السعادة وغمرتني معها.

إعجاب وزواج جديد

"يا إلهي! هي نفسها تلك الصبية التي كنت أراها تبيع في سوق فراس، أين أراضيها اليوم وكيف حياتُها؟" إنّه في عمر السادسة والعشرين، مثل خديجة تمامًا، رآها تخرج من أحد بيوت العزاء مع إحدى النساء الكبيرات اللواتي تُعلّمهنّ الخياطة، فقد أصبحت بارعة في ذلك ومُعلّمة، حيث تأخذ أربع ليرات مقابل تعليمهنّ فن الخياطة لأربعة أشهر، وقد كانت الليرة قديمًا تُقدّر بثمنٍ غالٍ جدًا.

سألها ذلك الشاب، عن حالها وزوجها، فأخبرته بأسف أنها طُلّقت، توضح: "قلت له بالضبط: على فيض الله ماشية، لا زوج ولا "ولد" -وتقصد ذكرًا-".. انتهى الحديث بينهما وتركته.

تبِعها وبعينيه فرحة لم يملك أن يخفيها، استغربت متابعته لها وسألته باستنكار: "أنت! وين رايح؟"، ردّ عليها بلا مبالاة: "هو أنا قاعد على رأسك؟"، فأكملت مسيرها، وإذ به يتبعها إلى بيتِها، ويقابل والدها، وتقدّم له الشاي كعادتها مع كل الضيوف بعد وفاة والدتِها، ثم تعود لاستكمال درس الخياطة مع إحدى طالباتِها.

لم يفكّر أو ينتظر، لقد طلبَ يدها من والدِها، ووعدَه أن يربي ابنتَها وأن يحافظ عليهما حفاظَه على روحِه، فكانت نصيبَه وحلالَه، إلى جانب "ضرّة" ببناتٍ ثلاث.

كان زوجُها غيورًا عليها لشدة ما أحبّها، فلم يحتمل أن تخرج من البيت إلا لضرورة، فلا تأتي بالماء في الجِرار ولا تذهب للتسوّق، في حين لم يكن يزعجها الأمر أبدًا، توضح: "كان أحبّ ما عليّ، لأني كنت مشغولة جدًا بالخياطة، أصِلُ ليلي بالنهار كي أنجز الطلبات"، لقد تميّزتْ وتدلّلت بمالِها الوفير.

خديجة.. أمّ بناتِها وأبوهنّ

أنجبت خديجة أنثى، ثم أنثى وأنثى ثالثة، أحبّتهنّ جميعًا رغم حلمها الكبير بإنجاب "ولد" وبقينَ في حضنِها حتى حين تخلّى أبوهنّ عنها وطلّقها بلا سبب مقنع، فقد أحبّ الزّواج بثالثة، وكان له ذلك، لكنه حتى هذا اليوم وهو في عمر الـ(88) نادمٌ على فعلتِه.

تقول ابنتُها التي جاءت لزيارتِها وتفقّد حالِها: "نعم، كلما زرنا أبي "الختيار" يطلب منا أن نسأل أمّي أن تسامِحَه، فتوصل له أنها تسامِحه تارةً، وأخرى تتدلّل وتقول لن أسامح".

عاشت خديجة تتمنى أن تَربَى بناتُها في أسرةٍ ودودةٍ بين أم وأب، لكنّ قدر الله كان غير ذلك، فكانت لهنّ وحدَها خير "أمّ وأب" وأعظم سَنَد، حتى كبرن وتزوّجن وصِرنَ يروين حكاية كفاحِها لأحفادِها الذين يحفظونها عن ظهر قلب.

كلمات الحاجة خديجة كانت أحلى من السّكر، وفي حركاتها نسيم عنبر، ولولا أن أشقّ عليها لما غادرتُها ولكتبتُ عنها أكثر فأكثر، إنها تمتلك من الحكمة والوعي والبساطة والعزّة ما يجعل حديثها ثريًّا غنيًّا لا يملّ.

سألتُها وكلّي أملٌ حقيقة في أن توافق: هل أساعدَك في شيء؟ هل أطبخ لك "بصارة" مثلًا –الفول والملوخية المجففة- أو العدس بالقرع أو الحمصيص؟ فهذه أكلات تراثية قديمة وتحبها غالبية النساء الكبيرات، مع أنني لستُ بارعةً في الطبخ ولم أطبخ هذه الأكلات يومًا إلا بمساعدة والدتي أو حماتي.

طيب، هل أرتّب لكِ غرفةً، ابْتَسَمَت وردّت: "الله يرضى عنك، غرفتي مرتبة دائمًا يا بنتي، طُلّي..". دَفَعَتْ باب غرفة نومِها وطلبت مني أن أقترب لأرى، ففعلْتُ.. كانت مرتبةً بالفعل، يفوح منها رائحة الزمان إلى جانب عِطر زكيّ حديثٍ مُنعِش، لها سريرها الخاص وفراشها النظيف وحصيرتها وبساطها الأرضي القديمين وخزانة "الفورمايكا" البنيّة الخاصة بثيابِها، وعلى طاولةٍ صغيرةٍ كان "التلفاز" متربعًا لكنه معطلّ، أشارت إلىّ أنها ستشتري "تليفزيونًا" صغيرًا آخر، وفوق "التلفاز" وضعت هاتفها النقّال الذي ما انفكّ أحفادُها وبناتها يدقّونه للاطمئنان عليها، فتردّ والسعادة تتملّكها بأنها بخير وأنها ليست بحاجة لشيء غير مرضاة الله، ثم تمطر المتّصل بدعوات الرّضا.

وقد كانت أضواء البطاريّة "الليدّات" مجهّزة، تستخدمها بسهولة في حال انقطاع التيار الكهربائي، إنها غرفة دافئة، وفي كل جنبٍ من جنباتِها يتناثر الحبّ وحكايات الكدّ والكفاح والجد والتضحية والأمل، وهل سأرى غير تلك المعاني بعد جِلستي الطويلة معها والاستماع للكثير من قصصها؟! أظنّها هي حكاياتُها التي وجّهت نظرتي "نفسيًا" لتلك الغرفة الصغيرة، التي لم تكن كساحة البيت الفوضويّة لضيقِها، حيث تكوّمت فيها الأخشاب وحُشِر فيها قفص الدجاجات والديك، وماكينتان قديمتان وبرميل ماء ضخم وتلك الأرجوحة الكبيرة وغيرها.

حياتها عطاء

حتى تلك اللحظة لم تقبل أن أقدّم لها شيئًا، هل أتسوّق لكِ إذًا؟ أخيرًا اقتنَعَتْ ويا لفرحتي حينئذٍ.. لكن شرط قبولِها كان أن تدفع لي سعر الخضرة التي سأشتريها حين عودتي، إنها لم تعتد إلا أن تكون صاحبة اليد العليا.. تقدم ولا تأخذ، العطاء هو عنوانُها وديدن حياتِها.

اشتريتُ لها الخضرة التي طلبَتْها، وقد اجتهدتُ كثيرًا في اختيار الأفضل لدرجةٍ ملَّ فيها البائع لكثرة ما أوصيتُه بالجودة، وعدتُ إليها بمرحٍ، فقابلتني بالكثير من الابتسامات والكلمات الطيبة والدّعوات، ثمّ سلّمتُ عليها بحبّ شديد وودّعتها بعد أن أسْمعتني لحنَ طفولتِها وذكرياتها حين كانت في السادسة تعتلي أشجار التوت وتقطف ثمارها ثم تقفز بكل خِفّة برفقة جارتِها.. "يوي يا محمد يا أسمراني.. يوي يا طولك خيزراني.. يوي وإمك سعدت يوم جابتك.. يوي جابتك وزير تقابل الحكام.. لولولولولي".