منذ مدة لم أكتب عن غزة، نتيجة شعور عميق بالإحباط مع استمرار الحرب بعنف غير مسبوق، في ظل واقع دولي رسمي شديد الضعف. يضاف إلى ذلك اتساع رقعة الممارسات الإسرائيلية إلى لبنان وسورية واليمن وإيران وقطر، إضافة إلى موقف عربي هزيل لم يسفر إلا عن اتفاق وقف إطلاق نار هش لم يُغيّر من الواقع إلا القليل. بقيت إسرائيل ماضية في سياستها المفضّلة: حرية الحركة… حركة القصف والتدمير والاغتيال والتدخل البري والسيطرة الجوية. إنها سياسة تنتزع من البلدان المعنية استقلالها وقدرتها على النهوض وبناء إمكاناتها.
هذا المشهد الإقليمي والدولي جعل كثيرين يشعرون بالعجز وعدم جدوى الكتابة؛ وهو شعور مفهوم رغم أنه غير صحيح بالمطلق، وتجب مقاومته مهما كان الواقع قاتماً.
ما أعادني إلى الكتابة هو خبرٌ أفرحني كثيراً: عودة الدراسة الجامعية الحضورية في بعض جامعات غزة. العودة تجري بين أنقاض المباني وتحت أسقف متصدّعة، وعلى بقايا كراسيّ محطّمة، وربما بعض الطلبة وقوفاً أو جالسين على أحجار الركام. والمفرح أكثر هو العدد الكبير من الطلاب الذين حضروا رغم البعد وقلّة وسائل النقل، ورغم طرقات اختفت معالمها وأصبحت مسالك ضيقة تذكّرني بالثنايا التي كنا نسلكها إلى مدرستنا الريفية في منتصف السبعينيات.
لكن الفارق هائل: ثنايا طفولتنا كانت مفتوحة على الخضرة والسهول والأشجار وأصوات العصافير والرعاة… حياة كاملة. أما ثنايا غزة اليوم فهي بين الخراب، والمباني المهدّمة، وعلى حافة جزر من مياه الصرف الصحي. لا خضرة ولا أفق، بل غبار وخوف وجوع، وصوت الطائرات المسيّرة والحربية والمدافع والدبابات، وأخبار الشهداء والجرحى. إنه واقع رماد لا ينهض منه إلا طائر فينيق يقول: "أنا هنا".
وكأن طلاب غزة هذا الطائر العائد: عادوا لا كالغائبين من أهل الكهف بل بلغتهم الخاصة، لغة الآن والمستقبل، وإرادة أقوى من الركام.
منذ شبابي، كنت أسمع أن الشعب الفلسطيني من أكثر شعوب المنطقة تعليماً، وقد أنجب نخبة متميّزة في الصحافة والإعلام والأدب والفكر والطب والهندسة وغيرها من المجالات. نخبة معروفة إقليمياً ودولياً بكفاءتها، وظلّت تكبر وتتجدّد رغم قرن من الاحتلال. بعض أفرادها درسوا في فلسطين وبعضهم خارجها، لكن فلسطين بقيت البوصلة الفكرية في كل الحالات.
خلال عامين من الحرب، كان لهذه النخبة حضور لافت في ميادين الصحافة والطب والأدب وغيرها. شاهد العالم صمود صحافيي غزة رغم الاستهداف، كما شهدت وفود الأطباء الذين دخلوا القطاع على الكفاءة العالية للأطباء الغزّيين الذين عملوا في ظروف يستحيل فيها العمل الطبي الاعتيادي، من شح الإمكانات إلى تهالك المستشفيات إلى الاستهداف المتعمد للأطقم الطبية.
للتعليم أهمية كبرى، فهو عنوان حياة الشعوب. ولذلك، عملت سلطات الاحتلال تاريخياً على السيطرة عليه، إمّا لتوجيه الوعي بما يخدم أجندتها، أو لتهميشه وترك الناس في ظلام الجهل؛ وكلاهما يؤدي الغرض نفسه.
من هنا، فإن عودة التعليم الحضوري في جامعات غزة، بهذه الإرادة القوية وبهذا الجهد الذاتي الذي لم يتدخل فيه الاحتلال، هو حدث بالغ الأهمية. إنه درس جديد يقدّمه الشعب الفلسطيني في صموده وتمسّكه بوجوده الفاعل وبموقعه في مسار المعرفة المعاصرة. فالتعليم يبقى أحد الأسلحة الأساسية للدفاع عن الوطن، مهما طال الاحتلال.
تحية إجلال لرجال التعليم ولطلاب غزة على هذه الإرادة المتّقدة، وهذه العودة المتلهّفة للنور… للعلم والمعرفة.

