بين يدي الحديث:
قامت حرب العصابات على مجموعة من الأصول والمبادئ، كان وما زال الهدف منها؛ تمكين الضعيف من استثمار، وتشغيل ما يملك من قدرات، على أفضل وجه، وبأكفأ الطرق، من أجل الإضرار بعدوه الذي يفوقه من حيث القدرات والإمكانات؛ البشرية منها والمادية. حيث كان، وما زال أهم أصل من أصول حرب العصابات هو: أصل الحفاظ على الذات، الأمر الذي جعل مفهوم الجغرافيا، والتمسك بها أثناء خوض رجال العصابات لحروبهم ومعاركهم، جعله ليس ذو قيمة ــ أكيد ليس في مطلق المواقف ــ أمام المحافظة على الأصول البشرية لمجاميع حرب العصابات وتشكيلاتها. وحيث أن فهم الحرب؛ تقليدية كانت أو على هيئة حرب عصابات، يخضع شكلا ًومضموناً للتطورات التي تطرأ على شكل التهديد، وتطور قدرات القتال ووسائطه، لما كان الأمر كذلك؛ كان لا بد من مراجعة دورية لما يطرأ على المفاهيم الرئيسية التي تحكم هذا النشاط البشري المعقد، عنينا به الحرب. الأمر سنحاول المقال تسليط الضوء على نوعه (العصاباتي)، إنطلاقاً مما شاهدناه خلال العامين المنصرمين من تطورات طرأت على شكل قدرات العدو، وإدارته لحربه ضد قوى المقاومة الشعبية، وداعميها من القوى الرسمية، والتي خاضت حربها مع هذا العدو مرتكزية على مبادئ وأصول، نعتقد أنها كانت شكلاً هيجيناً، وخليطاً مركباً، دخل فيه ما هو نظامي على ما هو (عصاباتي)، وهو خلط، إن نفع في مكان، فقد أضر في أماكن أخرى. سنحاول التطرق للتغيير الذي طرأ على مفهوم حرب العصابات كأحد آثار ونتائج معركة " طوفان الأقصى" من خلال سلسلة من العناوين والموضوعات.
ثانياً: تحرير المصطلحات:
قبل الخوض في أصل البحث؛ لا بد لنا من تحرير أهم مصطلحين من مصطلحات هذا البحث، وهما:
1. معنى المفهوم:
المفهوم هو فكر مجردة تمثل الخصائص الأساسية للشيء الذي تمثله، وهو الصورة الذهنية عن الشيء محل البحث. فإن قلت ــ على سبيل المثال لا الحصر ــ ماء فهذا يعني أنك تتحدث عن: سائلٍ، شفافٍ، لا طعم ولا لون ولا رئحه له، فإن تغيرت أي من هذه الخصائص، تغيير مفهوم الماء في الذهن، أو التصور، وهكذا دواليك في ما يعني مفاهيم ومصطلحات أخرى.
2. حرب العصابات:
حرب العصابات هي عبارة عن عمليات عسكرية أو شبه عسكرية تتم ضمن أرض يحتلها أو يسيطر عليها العدو، أو في أرض معادية، باستخدام قدرات غير نظامية، تأخذ في مجملها الطابع المحلي. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن مفهوم حرب العصابات، يختلف عن مفهوم " التمرد"، والذي هو عبارة عن عمليات عسكرية وشبه عسكرية، الهدف منها الإطاحة بحكومة مستقرة عبر استخدام عمليات التخريب المسلحة.
ثالثاً: الدوافع خلف تغيير المفاهيم:
يقف خلف مراجعة المفاهيم العسكرية والتعبوية، بهدف تطويرها أو تغييرها، مجموعة من الأسباب والدوافع، من أهمها:
1. تغيير المهمة:
فالسيطرة تختلف عن الاحتلال، أما التأمين فهو موضوع آخر له مقتضياته وتدابيره القتالية، والتعزيز يفهم منه إجراءات لا تفهم، ولا تطبق عند الحديث عن غيره من المهام العسكرية ــ غني عن الذكر أن العمل العسكري فيه فقط هذه المهام الأربعة فقط، وما يقال ويكتب حول المهام العسكرية، إنما هو اشتقاق عن هذه المهام ـــ .
2. تغيير الأهداف والغايات:
فعندما تكون العقيدة العسكرية لدولة أو كيان ما، عقيدة دفاعية مثلاً، فإنها تشتق من هذا العقيدة ما يلائمها من مفاهيم قتالية من قبيل: دفاع الصد، الدفاع المتحرك، الدفاع في العمق، القتال التراجعي، الدفاع السلبي، التأمين المتقابل، العُقد الدفاعية، وغيرها من المفاهيم التي تحكم مسار بناء قواتها الدفاعية، وتحرص على حيازة قدرات قتالية قادرة على النهوض بالعملية الدفاعية، بناء على ما اشتق من هذا المفهوم ومقتضياته من طرق عمل تعبوية، وتدابير قتالية.
3. تغيير التهديد والمخاطر الناتجه عنه:
فإن كان التهديد برياً؛ فإن ما يلائمه من مفاهيم قتالية، غير تلك المطلوبة لتهديد جوي، أو بحري. فالتهديد البري بحاجة لقدرات قتالية تعرف ماذا يعني مفهوم الكمين، أو مفهوم الإغارة، أو الاستدراج، ومقتضياتها التعبوية، فضلاً عن باقي مفاهيم الدفاع التي قيلت سابقاً. أما التهديد الجوي، فهو بحاجة إلى معرفة مثلاً، مقتضيات الدفاع الجوي النشط، أو الدفاع السلبي، أو مفهوم فِخاخ النار الجوية، أو الدفاع الجوي الميداني، وما يقتضيه هذا المفهوم من إجراءات قتالية، وتدابير قيادية.
4. تغيير الحلفاء و/ أو الشركاء:
حيث بتغيرهم تتغير القدرات، كما تزيد أو تنقص المهام والواجبات، الأمر الذي يتطلب ــ حكماً ــ مراجعة المفاهيم الحاكمة لتشغيل أو تطوير الإمكانات والقدرات، للتلائم مع ما استجد من مهام وواجبات، أو ما تغير من ضوابط وسياسات.
5. تطور القدرات والإمكانات:
فما يحكم تشغيل قدرات برية من مفاهيم، لا يشبه إلى حد كبير ما هو مطلوب لقيادة وتشغيل قدرات جوية أو بحرية. فجيش ليس فيه سوى قوات مشاة برية، لا يلزمه العمل بمقتضى مفاهيم سلاح الدروع أو المدفعية، وإن كان مطلوب منه تحصيل فهم كليّ للمفاهيم التي يرتكز لها تشغيل تلك القدارات؛ كونها تهديد، والتهديد لا بد من معرفته؛ شكلاً ومضموناً، للتمكّن من مواجهة المخاطر الناتجة عنه وكبحها.
نكتفي بهذا القدر من الحديث عن الدوافع التي تقف خلف تغيير أو مراجعة المفاهيم التعبوية، ونذهب للحديث عن أصول ومرتكزات حرب العصابات، كون التغيير في مفهوم حرب العصابات، ينعكس حكماً على التغيير في تلك الأصول، والمرتكزات، لذلك لا بد من التعرف عليها.
رابعاً: أصول ومرتكزات حرب العصابات:
إن ما ينطبق على على الحرب النظامية من أصول ــ الهدف، المفاجأة، الحشد، الاقتصاد في القوات، وحدة القيادة، المناورة، الهجوم، التأمين ــ كلها أصول يراعيها مقاتلوا العصابات، إلّا أن الأهداف التي ينشدون تحقيقها من قتالهم لعدوهم من: فرض حالة من عدم الاستقرار والاستنفار دائم على جنوده وقطعه العسكرية، فضلاً عن الحاق خسائر بشرية ومادية فيه، وصولاً إلى تحرير الأرض منه، ثم ردعه، ضمن ضابط رئيسي يقضي بالمحافظة على الذات والقدارت؛ كلها أمور فرضت، وتفرض على رجال المقاومة وحرب العصابات مجموعة من الأصول الأخرى من أهمها:
1. التراجع عند تقدم العدو، فلا حكمة في أخذ (الثور) من قرنيه.
2. التقدم عند تراجع العدو، فالخوف سيد موقف العدو، مما يعني جبي أثمان كبيرة منه.
3. إزعاج العدو عند استقراره، فالراحة عند الاستقرار، يعني التجذر في الأرض والتماهي معها، فلا مصلحة في منحه ــ العدو ـــ ميزة الاستقرار، ليبني من حوله جدار.
4. مطاردة العدو عند انسحابه، لجعل خروجه المنظم من ساحة المعركة، خروجاً متسرعاً غير مسيطر عليه، فلا يوقف تراجعه حد، ولا يمنح فرصة لبناء (سد).
هذه هي الأصول النظامية، وغير النظامية التي تراعيها قوات العصابات عند قتالها لعدوها ومقارعتها له، جئنا على ذكرها، كون التغيير في مفهوم حرب العصابات، سوف ينعكس على هذه الأصول؛ فهماً وإجراءً.
خامساً: ما الذي استجد فاستدعى التغيير:
تحدثنا في مقدمة المقال عن الدوافع التي تفرض مراجعة المفاهيم، وما يشتق عنها من أصول وتدابير، ليبنى على الشيء مقتضاه. فما الذي استجد بعد حرب "طوفان الأقصى" ليستدعي مراجعة مفهوم حرب العصابات؟ إن مرجعة سنتي الحرب الماضيتين يرينا أن أموراً كثيرة قد تغيرت واستجدت، من أهمها:
1. بيئة المعركة:
فوسائط الجمع الحرب، والسطع المعلوماتي، قلصت مساحة المجهول في المواقف القتالية إلى أقصى حد ممكن، كما رفعت القدرات القتالية تلك، وبمختلف صنوفها، رفعت منسوب التهديد إلى أعلى مستوى، الأمر الذي فرض زيادة في جهد الإعداد والاستعداد لجولات القتال، وإدارة مواقفه.
2. مسارح العمليات وميادين القتال:
فلم يعد هناك (مؤخرة) أو عقبة قوات للقوات النظامية، فضلاً عن مجاميع العصابات، وفقدت مفاهيم مثل النقاط الحاكمة أو الاستراتيجية أهميتها التعبوية، كما أصبحت بعض طرق القتال ومناوراته كالاتفاف، أو الكمائن والإغارات مثلاً، محفوفة بالمخاطر؛ لقدرة العدو على تسطيح ساحة المعركة، ورؤية ما يدور فيها، وما يطرأ عليها من تغييرات يراها بشكل آني ولحظي.
3. تغير الوسائط القتالية شكلاً وبأساً:
ففي الوقت الذي كان فيه تشغيل الوسائط الجوية المأهولة، يفرض على مشغليها سلسلة من الضوابط والإجراءات، قلصت من فاعلية هذه الأسلحة، أصبح تشغيل غير المأهول من هذه القدرات لا يتطلب كل تلك الضوابط والإجراءات، مما يعني زيادة بأس وتدمير وضرر هذه الوسائط، فضلاً إمكانية تشغيل أعداد أكثر بكثير مما لو كانت تلك القدرات من النوع المأهول. كما أن زيادة القدرة التدميرة لبعض الذخائر القتالية، فرضت على المدافع مراجعة شكل ومقتضى التترس بالأرض والاحتماء فيها.
4. تغيير في قدرات القيادة والسيطرة:
فأصبح قادة التشكيلات والوحدات القتالية، يسيطرون على كل جزء من قدراتهم البشرية والمادية، فيرون هذه الأجزاء وهي تتحرك في مناطق الحشد، وعند انفتاحها للقتال، فضلاً عن رؤيتها وهي تحتك بالتهديد وتشتبك معه، بل أصبح هؤلاء القادة، يرون ما يدور على بعد آلاف الأميال من جولات قتال، يرونه صوتاً وصورة. الأمر الذي يعني زيادة فاعلية هذه القدرات، وإمكانية الحد من مفاجأتها، أو عزلها عن قيادتها المستقرة في غرف علميات تبعد آلاف الكيلومترات عن ساحة المعركة، وأرض المناورة. بل إن بعض الجيوش أصبحت تزرع في أجسام جنودها شرائح الكترونية، فيها رقمه العسكري، وفصيلة دمه، والأمراض التي يعاني منها، والوحدة التي يتبع لها، وآخر إصابة تعرض لها، مما جعلهم ــ الجنود ـــ يُرون أثناء الحركة، أو السكون، كنقاط حمراء أو خضراء، تتحرك على شاشات البلازما في غرف العمليات، ووسائط القيادة والسيطرة.
سادساً: مفاهيم حرب العصابات محل المراجعة:
أمام هذه التغيير الحاصل في بيئة المعركة، ووسائطها القتالية، وحيث أن أصل الحفاظ على الذات والقدرات كان وما زال أصلاً مركزياً من أصول حرب العصابات، فإن المراجعة التي يجب العمل على إنجازها، لمعرفة مقتضياتها، فيما يخص حرب العصابات، يجب أن تشمل مراجعة لأصول ومفاهيم كثيرة، من أهما:
1. مفهوم التأمين:
كيف تؤمن القوات، وما هي المتطلبات المادية والإدارية التي تمنحهم أفضل مستوى من التأمن والأمان، وكيف يمكن الدمج أو الموائمة بين تأمين القوات، وتأمين حواضنها الشعبية والإجتماعية؟
2. مفهوم المهمة:
ما هي المهمة المطلوب من قوات العصابات تنفيذها؟ وما هي الأهداف والواجبات المشتقة من تلك المهمة؟ فضلاً عن التحديات التي تعترض تنفيذها، وما هي فرضيات العمل، التعبوية والإدارية، التي يجب ملاحظتها قبل التكليف والأمر؟
3. مفهوم الحشد وتمركز القوى:
كيف يمكن تطبيق هذا الأصل؟ في مواقف قتالية تُشغّل فيها وسائط نارية ذات قدرات تدمير هائلة، كيف يطبق هذا الأصل؟ شكلا ومضموناً ومقتضيات بما يوفر كتلة صلبة قادرة على الصد أو الخرق والإضرار بالعدو، دون أن تكون هدفاً (رخوا)، يُقضى عليه ويحييد بأقل الأكلاف وأقصر المدد.
4. مفهوم عقبة القوات:
هي (الماء) الذي تسبح فيه (سمكة) المقاومة، وهي نقطة ضعفها الرئيسية، بانت ورأيناها في معركة "طوفان الأقصى" فقد استخدمها العدو في حربه، وما زال بفاعلية كبيرة، وعليه كيف يمكن أن يُستفاد من هذه البيئة على أفضل وجه؟ وكيف يمكن أن تؤمن لها أسباب الصمود؟ بما يطيل عمرها، ويروفع من قدرة تحملها، فتغدو نقطة قوة، بعد أن حولها العدو إلى نقطة ضعف، كيف؟
ومفاهيم أخرى يطول الحديث عنها، بدء من الدفاع، إلى الهجوم، إلى المناورة بالقوات، إلى تحقيق التماس أو قطعه مع العدو، لكن نكتفي بما ذكرنا، فقد طال المقام والمقال. و نعتقد أن حرب " طوفان الأقصى" وما تخللها من جولات قتال، وتغيير في وسائطها وطرق تشغيلها ، كلها تفرض علنا التفكير الجمعي لبحث المتغييرات الإدارية والتعبوية التي طرأت على حرب العصابات، والتي كانت وما زالت هي الأنجع لمقاتلة هذا العدو وحلفاءه، من عجمان وعربان.

