في غزة، حيث يمتزج صوت البحر مع دويّ الانفجارات، تتشكل الطفولة في ظروف استثنائية لم يعرفها أطفال العالم الآخرون. يولد الطفل محاطاً بالحصار المستمر والأزمات المتكررة وانقطاع الكهرباء والمياه، ويكبر في واقع يحرم كثيراً من أبسط حقوقه، لكنه في الوقت نفسه يكتسب قدرة غير عادية على الصمود والتكيف. ففي المخيمات وبين الركام، يشيد الأطفال ملاعب صغيرة من الحجارة ويحوّلون الصناديق إلى بيوت، ويرسمون على الجدران ألوان الشمس وسط الدخان الرمادي، لتبقى روح الحياة حاضرة رغم الخراب. وفي الصباح الباكر، يحمل آلاف الأطفال حقائبهم المدرسية ويستعدون لمواجهة يوم آخر من الحرب والحرمان، حيث المدارس ليست مجرد أماكن للتعليم، بل ملاذ صغير يمنحهم لحظات من الطمأنينة، ومساحة يمكنهم فيها أن يكونوا أطفالاً ولو لساعات قليلة، رغم أصوات القصف التي تختلط بضحكاتهم الصغيرة، ورغم فقدان بعضهم لأحبائهم الذين لم يسلموا من الحرب.
في الشوارع المدمرة، يتحول اللعب إلى شكل من أشكال المقاومة*؛ الكرة تصنع من علبة معدنية، الطائرة الورقية من كيس بلاستيك، والضحكات تتحدى أصوات القنابل والانفجارات. الأطفال يخلقون من لا شيء عوالم صغيرة يمكنهم فيها التنفس والشعور بالحياة، يلعبون بين الأنقاض ويختلقون فرحاً وسط الألم، ويرسخون في وجدانهم شعوراً بأن الحياة يمكن أن تستمر مهما طال الخراب. كل يوم يشهد الأطفال تحدياً جديداً، فمنهم من فقد منزله، ومنهم من فقد جزءاً من أسرته، ومع ذلك يواصلون السير على الطريق التي رسمها لهم أملهم بالمستقبل، يحملون أحلاماً بسيطة لكنها قوية، يريدون أن يصبحوا أطباء لإنقاذ المرضى، معلمين لتعليم الأجيال، مهندسين لإعادة بناء ما هدمته الحروب، وفنانين ليضيفوا للمدينة الممزقة ألوان الفرح التي سرقتها الحروب.
الألم النفسي حاضر، فهو رفيقهم الدائم منذ الصغر، إلا أن القوة الداخلية التي يمتلكونها تبدو أحياناً أعظم من أي مأساة. الأطفال في غزة يتعلمون بسرعة أن الحياة لا تعطيهم فرصة لإضاعة الوقت، وأن كل لحظة يمكن أن تكون فرصة للبقاء أو للاختفاء، وأن الحرية الحقيقية ليست مجرد كلمة، بل هي القدرة على اللعب، التعلم، والعيش بأمان دون خوف. في أعينهم ترى صموداً لا يشبه أي صمود آخر، وفي ابتساماتهم الصغيرة بريق تحدٍ للحياة نفسها، وكأنهم يقولون للعالم: “رغم كل شيء، سنكبر وسنعيش، وحلمنا سيستمر مهما حاولتم سلبه”.
من الصعب الحديث عن غزة دون الشعور بالمفارقة الكبرى: طفولة تُسلب من أبنائها كل يوم، وأحلام تولد مع كل يوم جديد لتثبت أن الأمل لا يموت.
الأطفال هنا ليسوا مجرد أرقام في نشرات الأخبار، ولا صور عابرة على الشاشات، بل قصص حية تنبض بالحق في الحياة. هم يصرخون بلا صوت أحياناً، ويمسكون بيد بعضهم البعض ليصنعوا شبكة أمان وسط الخراب، ويمارسون حياتهم بطريقة تؤكد أن الإنسان قادر على الصمود مهما كانت الظروف، وأن الحياة أقوى من الحرب والدمار.
بين الطفولة المسروقة والحلم الذي لا ينطفئ، تظل غزة مدرسة في الصمود وأطفالها أكبر الشهود على أن الإرادة لا يمكن كسرها، وأن الأمل يمكن أن يولد من قلب الخراب. وما يجعل قصتهم أكثر إلهاماً هو أن هذه الأرواح الصغيرة تعلم العالم درساً عظيماً: أن الحياة حق، وأن كل طفل يستحق اللعب، التعليم، الأمان، والحب، وأن أصواتهم يجب أن تُسمع وتحترم، وأن الحلم مهما طال انتظاره، قادر على البقاء، والنمو، وإعادة رسم مستقبل أفضل.

