كان يبحث عن زوجة يمضي معها أيام حياته، تحفظ بيته ونفسها، ويسعد معها وتربي أبناءه ويغدق عليها حبه وحنانه. ما يزيد على عام مضى دون أن يوفق إلى ما يصبو إليه، حتى حضر خاله ذات يوم تبدو البهجة واضحة في عيونه وقسمات وجهه.. لقد وجدتها لك يا مهدي.. أجل وجدتها.
- من هي؟
- بنت الحلال.
فقال مهدي مازحاً:
- وأين كانت مختبئة؟
- في بيت أبو مهند الحايك، جارنا القديم. أنت تذكره، أليس كذلك؟
- أجل، أجل، وكيف لي أن أنساه.. صحيح أنه غادر الحي عندما كنت طفلاً، ولكني ما زلت أذكره وأذكر أبناءه الذين طالما لعبت معهم.
- لدى أبو مهند ابنة مثل القمر، بنت أصل، وتصغرك بست سنوات.. نورا.
- لا بأس يا خالي، ولكن لنسأل عن الجماعة أولاً.
- لا داعي للسؤال، نحن نعرفهم جيداً، من أفضل الناس.
- ما رأيكما يا أبي وأمي؟
- على بركة الله.
مضت أشهر الخطبة الستة، كانت لقاءاته بنورا قليلة خلالها، لتَحَفُّظِ أهلها على زياراته وامتعاضهم من جلوسه معها، ومضت وراءها أشهر الزواج الخمسة بسرعة أكبر، وبعد أقل من عام عاد بعدها أعزب كما كان، ولكنه كان يمتلئ جراحاً وندباً من معركة زواج خاسرة خاضها، أشعلت فتيلها والدة زوجته. كانت امرأة متسلطة تتحكم بأفراد أسرتها بمن فيهم زوجته بعد زواجها. فلم تكن الزوجة تتجرأ على أن تخرج عن طوع والدتها، وتستأذنها في كل ما تريد عمله في بيته، حتى الخروج معه، وتنتظر أمرها وموافقتها. وعند أدنى سوء تفاهم، تحضر أمها وتسحبها من يدها كطفل صغير، وتطلب منه أن يذهب لاسترضائها وإعادتها لبيتها. دون أن يجد مبررات لسلوك الوالدة غير حب السيطرة والتسلط وافتعال المشكلات.
وما إن مضى الشهر الثالث على الزواج حتى كان مخلوقا جديدا يتكون داخل أحشاء نورا، يحلم بأن يرى النور في حضن أم وعلى صدر أب في بيت يمتلئ دفئاً وحباً. ولكن "ما كل ما يتمنى المرء يدركه، تجري الرياح بما لا تشتهي السفن". فبعد شهر من ظهور الحمل، هجرت نورا بيتها إلى غير رجعة، وراحت والدتها تبعث لزوجها برسائل مسمومة مع من تجمعه بهم علاقة ما لها صلة بها.. "نورا لا تريد هذا الحمل، فلو كان بيدها لأنزلته، فما إن تلد ابنتي سنرمي بهذا الصغير لذلك الرجل ليتكفل أمره"، "يبدو أن هذا الصغير سيئ كوالده، فهو قد أتعب ابنتي وأنهك صحتها.. أتمنى اليوم الذي تتخلص فيه منه، وليذهب للجحيم هو ووالده"... إلخ.
وذات ليلة شتائية شديدة البرد، دق جرس الهاتف قبل منتصف الليل بقليل:
- ألو.. تعال استلم جروك، لقد قذفت به ابنتي إلى الدنيا.
وأُغلق الهاتف بعد هذه العبارة التي أثارت حنقه وحقد قلبه على هذه المرأة التي لم يستطع تصنيفها من جنس البشر. ولكن الطبيب رفض إخراج الوليد معه قبل أن يعاينه طبيب الأطفال في اليوم التالي، ويرضع رضعة على الأقل من والدته. ووقفت والدتها مرة أخرى بالمرصاد ولكن هذه المرة للطبيب متحدية لأوامره وقائلة:
- ابنتي لن ترضع هذا الجرو أبداً.. يكفيها ما صنعته معه من معروف أن أكملت حمله حتى النهاية. لن ترضعه حتى لا تعتاد على حبه فتتحرك مشاعر الأمومة داخلها.
- ولكن..
- لا استثناءات هناك.. انتهى الأمر.
وحمل وليده وعاد به إلى بيته، كان الوليد يبكي بكاءً حاداً ويبحث عن أي شيء يلمس زاوية فمه يريد التقامه والرضاعة منه. احتار ماذا يفعل به، فهو حديث الولادة، وجائع، ولا أم لترضعه؟ نصحه طبيب الأطفال بنوع خاص من الحليب، وعلمه كيف يُعدِّه ويُرضِعُه..
ومع التغيرات العاصفة التي طرت عليه، اضطر مهدي للعودة مرة أخرى لبيت العائلة، كما كان قبل زواجه، وأخذت الجدة ترعى الصغير كأم له، وتعتني به وتفيض عليه من حنانها. برغم الألم الكبير الذي كان يعتصر قلبها عليه وعلى ولدها الذي ذوت صحته وظهر الهمُّ في معالم وجهه.
أما الزوجة، فقد توجهت للمحاكم تطلب الطلاق، وتطلب كل حقوقها الزوجية. وبعد جلسات وجلسات ومرافعات ومداولات.. كان قرار القاضي:
- طلاق الزوجة دون دفع الزوج لأية حقوق.
بكى مهدى حين سمع القرار. لقد كانت أمنيته أن تعود زوجته إلى رشدها، فتترك تسلط والدتها، وتختار أن تبني مملكتها الخاصة بحرية وأمان.. ولكنها اختارت طائعة أن تبقى رهن إشارة والدتها فتقوض بيتها وتعود مطلقة إلى جانب والدتها، لا أم وزوجة وربة لبيتها الخاص.
أما الطفل، فقد كرس والده حياته له حتى يشب ويعتمد على نفسه، ليكون بمقدور الوالد حينها أن يفكر بخيارات أخرى لنفسه.