﴿وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين﴾* (الأنبياء: 107)
غزة تنزف في ذكرى المولد
هذه الآية تختصر رسالة النبي ﷺ التي تتجدد في كل زمان: رحمة تهدي الضال، تضيء ظلمات الجهل، وتطفئ نيران القسوة. عمّت المؤمن والكافر، القريب والبعيد، وحتى من عاداه نال من عفوه وصفحه. اليوم، ونحن نستقبل ذكرى مولده الشريف وغزة الجريحة تئن تحت الركام والجوع والخذلان، ندرك أن الاحتفال بالمولِد ليس طقسًا عابرًا، بل استدعاء عملي لرسالته الخالدة: أن نكون رحمات للعالمين، نصرةً للمستضعفين، ووفاءً للحق، وبذلك نحيا بنوره الذي لا ينطفئ.
النبي ﷺ لم يقتصر عطاؤه على المؤمنين فقط، بل شمل كل من حوله من البشر والحيوان والبيئة. علم أمته أن الرحمة أساس المعاملة، فكان يلين القلوب بالكلمة الطيبة، يغمر المظلومين بالعطف، ويزرع في المجتمع قيم التعاون والإيثار. أصبح المجتمع المحيط به نموذجًا للعدل والتراحم. ﷺ لم يكن قائدًا فقط، بل أبًا رحيمًا ومربيًا حكيمًا، يرفع من شأن الضعفاء ويعلّم أن الخير ليس بالمال، بل بالسلوك الحسن والخلق الكريم.
في غزة الجريحة، حيث تختنق الأرواح تحت الركام والدمار، تبرز الأسئلة الأخلاقية: أين أمة محمد اليوم من نزيف غزة؟ أين صدى الرحمة التي جاء بها الحبيب ﷺ في وجدان الأمة، وهي ترى أطفالها يموتون جوعًا، وبيوتها تتحطم، وكرامتها تُسحق؟ الاحتفال بالمولد دون نصرة المستضعفين خيانة لرسالة الرحمة ﷺ وفقدان للبوصلة الأخلاقية التي أرادها لنا.
رغم الحصار والجوع، لن يثنينا الكرب عن الاحتفال بمولدك ﷺ، فأنت حبنا الأزلي ونبض قلوبنا وضياء عيوننا وبلسم جراحنا. تستذكر القلوب قول الله: ﴿ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا﴾ (الطلاق: 4)، وتدرك أن البلاء يزول إذا أحيينا سنته واستمسكنا بخلقه العظيم ﷺ: ﴿وإنك لعلى خلق عظيم﴾ (القلم: 4). وفي زمن الغضب والفوضى، لا ملاذ لنا إلا بالذكر: ﴿ألا بذكر الله تطمئن القلوب﴾ (الرعد: 28)، ولا خلاص إلا باليقين بوعده: ﴿ومن يتق الله يرزقه من حيث لا يحتسب﴾ (الطلاق: 3).
المولد الشريف ليس مجرد ذكرى تاريخية، بل بشارة للقلوب الجريحة بأن للشدائد نهاية، وأن غزة — رغم جراحها — لن تنطفئ ما دام بيننا ذكر محمد ﷺ وسيرته التي توقظ الأرواح وتشد العزائم. في هذه المحرقة، يظهر من يستغل الكارثة لسرقة المساعدات ورفع الأسعار، ناسٍ قول النبي ﷺ: «من غشّ فليس مني». أي قلبٍ هذا الذي يفرح بربحٍ ملوث بدماء الجوعى؟
مولد النبي ﷺ ذكرى رجلٍ كان يؤثر غيره بالطعام وهو جائع، ويشعل قنديل الرحمة في أحلك الليالي. في مثل هذه الشدائد، لا يعلو قدر المرء بجمع الدنانير، بل بحسن الخلق، والرحمة بالناس، والإيثار عند الضيق: ﴿ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة﴾ (الحشر: 9).
من أراد أن يحتفي بمولد الحبيب ﷺ حقًا، فليكن سندًا لغزة في مواجهة الإبادة الجماعية، معينًا لأهله وجاره، باذلًا لا سارقًا، رافعًا للبلاء لا مستزيدًا في العناء. لتكن ذكراه ﷺ دعوةً للأمة لتستيقظ، لتقف مع المستضعفين، لتعيد الرحمة إلى قلوبها، ولتضيء العالم بنور أخلاقه وسيرته.
فلنحيي ذكرى النبي ﷺ بالرحمة، ولنكن صرخة في وجه الظلم، سندًا للمستضعفين ونورًا للعالمين.

