﴿سَحَروا أَعيُنَ النّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ﴾ الأعراف116
في قلب ملحمة غزة الأسطورية، لم تعد المعارك تُقاس بالنار والدبابات فقط، بل بالكلمة والصورة، وبالقدرة على التحكم في الرواية التي يقرأها العالم. منذ اللحظة الأولى لمحرقة غزة في أكتوبر 2023، ارتفعت أصوات الفلسطينيين من تحت الركام لتكتب التاريخ بدمها ودموعها، وتكشف هشاشة السردية الصهيونية التي اعتمدت عقودًا على التضليل والتحكم في الصورة.
غزة لم تعد مجرد أرض محاصرة، بل صارت منصة للوعي العالمي، حيث امتدت المقاومة لتشمل الإعلام الرقمي والفن والمقاومة الشعبية، محوّلة المعاناة إلى قوة رمزية ومصداقية لا يمكن إنكارها. صور الأطفال تحت الركام، صرخات الأمهات، عدسات الهواتف المحمولة، كلها عناصر صنعت سردية جديدة تقول للعالم: هذا هو الحق الفلسطيني، هذا هو صمود الإنسان في وجه الظلم، وهذه هي العدالة التي لا تقهر.
السردية الصهيونية، التي بُنيت على مظلومية مفتعلة، "الدولة الصغيرة المحاطة بالأعداء"، لم تعد تنطلي على أحد. كانت (إسرائيل) تراهن على الخوف، على الرواية التي تصوّر الفلسطيني إرهابيًا والمحتل ضحية. لكن مع السابع من أكتوبر، ومع الصور والفيديوهات المباشرة المنتشرة عبر تيك توك وتويتر وإنستغرام، انهارت الهيمنة الإعلامية، وكُشفت الأكاذيب أمام العالم بأسره.
وسط هذه المعركة، استشهد مئات الصحفيين والإعلاميين الذين قدّموا نموذجًا ملهمًا للشجاعة والثبات. أنس الشريف، حسن أصليح، وغيرهم من صوت وصورة الحق الفلسطيني حملوا الكاميرا والكلمة على صدورهم وسط القصف والدمار، ليس فقط لنقل الخبر، بل ليكونوا صوت الضحية ورواة الحقيقة. استشهادهم لم يكن مجرد فقدان للأرواح، بل شهادة على أن امتلاك الرواية اليوم يعني التضحية، وأن معركة الوعي تتطلب ثمنًا جسديًا وروحيًا هائلًا. هؤلاء الأبطال حولوا كل صورة، وكل فيديو، وكل كلمة إلى سلاح في مواجهة السردية الصهيونية، مؤكدين أن الرواية الفلسطينية ليست مجرد حكاية، بل إرادة لا تقهر وشجاعة تبقى منارة لكل حر وشريف في العالم.
لم يعد الفلسطيني مجرد رقم أو ضحية في نشرة أخبار؛ أصبح شاهدًا، مُنتجًا، وموثقًا لروايته. شاب يبث من التلغرام، أم توثق قصف بيتها، طفل يصوّر ما تبقى من عائلته، وكاميرات المقاومة التي فضحت الجرائم؛ كل هذه الأدوات حولت غزة من مدينة تحت القصف إلى رأس حربة في معركة السردية، لتكشف للعالم أن الانتصار الحقيقي اليوم يبدأ بالوعي قبل النار.
في هذه المعركة، تكمن قوة الرواية الفلسطينية في صدقها وأصالتها. فبينما كانت (إسرائيل) تحاول تصوير نفسها كضحية في السابع من أكتوبر وكأن احتلال فلسطين ليس ممتدا لأكثر من عقود سبعة، كانت غزة تحكي الحقيقة الإنسانية البحتة: مجازر جماعية، أطفال بلا مأوى، أمهات يصرخن تحت الركام، دماء تسيل بلا نهاية. هذا الصمود الموثّق حوّل القضية الفلسطينية إلى قضية عالمية، وأرغم وسائل الإعلام الغربية على إعادة النظر في سرديتها ومراجعة الخطاب التقليدي الذي لطالما صبغ الجرائم الإسرائيلية بمسمى "الدفاع عن النفس".
على الصعيد الرقمي، شهدنا ثورة حقيقية في أدوات السرد. الفيديوهات القصيرة، الصور الميدانية، البث الحي من قلب الحدث، كلها كانت أدوات مقاومة بيد الفلسطيني العادي، وتحديًا مباشرًا لاحتكار الاحتلال للصورة والرواية. هنا، الصحفي والمواطن ليس مجرد ناقل للحدث، بل مشارك في صناعة الرواية، والمقاومة ليست فقط على الأرض، بل في كل خبرة رقمية تُسجَّل وتُنشر في الزمن الحقيقي.
هذا التحول لم يكن مجرد هزيمة إعلامية للاحتلال، بل انقلاب على الهيمنة الأخلاقية والسياسية التي حاول فرضها. فجأة، وجد الاحتلال نفسه مضطرًا لمواجهة رواية فلسطينية حية تتحدث باسم الحق وتحاسب العالم على صمته. وفي مواجهة هذه السردية، بدأت تظهر شروخ في الدعم الغربي التقليدي، حتى في أكثر الحكومات تحيزًا ل(إسرائيل)، مع بروز مظاهرات عالمية تضامنية لم يسبق لها مثيل.
إن امتلاك السردية اليوم ليس ترفًا إعلاميًا، بل فعل تحرري بامتياز. من يكتب الرواية يحدد مصير الأمة، ومن يحافظ على الذاكرة الجماعية يحمي الحق في الوجود. غزة بفخرها ودمها الحي، وضحاياها وأصواتها، لم تُبَث فقط للمجتمع الفلسطيني، بل للعالم كله لتقول: هذه الحقيقة، وهذه المقاومة، وهذه العدالة الإنسانية.
وهنا يظهر انتصار الوعي: ليست المعركة فقط على الأرض، بل في القلوب والرواية، في العقل الجمعي، وفي محافل العدالة الدولية. السردية الفلسطينية، التي لم تُستسلم لأدوات الاحتلال الإعلامية رغم الحصار والملاحقة والإبادة المتعمدة للإعلاميين، فرضت حضورها، وأقنعت العالم بأن العدالة والحرية ليست شعارات، بل حقيقة تُعاش وتُوثق وتُنشر.
في النهاية، غزة أسقطت السحر: كسر احتكار الرواية، وأجبرت الاحتلال على مواجهة حقيقته المدوّية أمام العالم. المعركة لم تنته بعد، لكنها أوضحت درسًا خالدًا: من يملك الكلمة، يكتب التاريخ؛ ومن يسيطر على الرواية، يحدد المستقبل. وفي قلب هذا الصراع، يثبت الفلسطينيون أن الحق لا يُقهر، وأن الكرامة الإنسانية، مهما اشتدت المحن، تبقى مشعلاً يضيء دروب العدالة والحرية.
وفي قلب الركام، بين أنقاض البيوت وأحلام الأطفال الممزقة، يكتب الفلسطينيون درسًا خالدًا للبشرية: أن الكلمة الصادقة، والصورة الحقيقية، والوعي الذي لا ينكسر، أقوى من كل جيش، وأشدّ وقعًا من كل قصف. غزة، بدمائها وأصواتها، لم تُسقط فقط أسطورة القوة العسكرية، بل كسرت السحر الذي حاول الاحتلال فرضه على العقول والقلوب، لتعلن أن الحرية تبدأ من الرواية، وأن التاريخ يُحفظ بالجرأة قبل أن يُكتب. في هذه المعركة، يُثبت الفلسطينيون أن العدالة لا تُمنح، بل تُنتزع، وأن الحق لا يُقهر، وأن شعلة الكرامة الإنسانية ستبقى مضيئة، مهما تعالت الأصوات المظللة، ومهما حاول الظلام سحر العيون. غزة لم تنهزم، بل صارت منارة لكل أحرار العالم، تُذكرهم بأن الحقيقة لا تموت، وأن الرواية الحية هي سر الانتصار الأبدي.

