فلسطين أون لاين

​أيكون أبي قد عاد يا أمي؟

- أرجوك يا أمي، أسرعي، افتحي الباب؛ فقد يكون هذا والدي عاد إلينا.

صدمتني عبارته تلك، ولم أتوقع أن يخرج من فم هذا الصغير كلام كهذا، تأملت في وجهه، يشبه والده كأنه نسخة مصغَّرة عنه، عدُّت إلى الوراء، يا إلهي!، وكأن ذلك قد حدث قبل بضع دقائق ليس إلا:

- عمتي، منذ ما يزيد على ساعة أتصل بمحمد، هاتفه يرن ولا أتلقى ردًّا، القلق يعصف بي ويكاد يحطم قلبي.

- لا تخافي يا حبيبتي، هو في رعاية الله.

- ولكن، ماذا تعتقدين أن يكون السبب؟

- إن شاء الله يكون خيرًا، كوني مطمئنة النفس، فالله يختار لعبده الأفضل دائمًا.

مرت دقائق أخرى حسبتها دهرًا: "يا إلهي، طمئني على محمد"، فتحت التلفاز، كانت فضائية الأقصى تنقل ببث مباشر حدثًا ما، لم أنتبه في البداية ما هو، ففكري المشتت يحول دون أن أدرك ما يقوله الصحفي، سمعت كلمات مبعثرة لا معنى لها: (نفقًا، انهيارًا، إصابات ... إلخ). جاءت عمتي وجلست إلى جانبي وراحت تصغي: "لطفك بنا يا الله، ربي يرجعكم لأهلكم سالمين"، نهضت من مكانها فتوضأت وراحت تصلي وتبتهل إلى الله، شاهدت دموعها تنساب بغزارة على وجهها، ولكنها كانت متماسكة إلى أبعد الحدود.

- ماذا هناك يا عمتي؟، أتخفين عني شيئًا؟، هل تعلمين شيئًا عن محمد ولا تريدين إخباري به؟

- أبدًا يا بنيَّتي، أنا لا أخفي شيئًا، وكوني واثقة أن الله هو ألطف بعبادة من أنفسهم؛ فلا تجزعي.

حاولت إزاحة القلق جانبًا، ورحت أقرأ الشريط الأحمر الذي يبث أخبارًا عاجلة: "انهيار نفق على الشريط الحدودي الشرقي لقطاع غزة إثر استهداف طائرات العدو له، ومنع جيش الاحتلال أي طواقم إنقاذ من الاقتراب من المكان لتقديم المساعدات للمقاومين المحتجزين داخله"، شعرت بدوار يلف رأسي، وغمامة سوداء تغطي عيني، رحت أنوح بصوت مرتفع، حدثني قلبي أن محمد هو أحد هؤلاء المقاومين.

لم يكن يكلمني عن عمله تحديدًا، كل ما علمته عنه حين تقدم لخطبتي أنه يعمل في حفر الأرض، ظننت أنه يحفرها لبناء البيوت والعمارات، ولكنه صحح معلومتي في لقائي الأول به، قائلًا: "أنا أحفر لبناء وطن حر"، لم أفهم قصده، وعندما استوضحت منه أكثر قال لي: "لا أريد أن أخدعك، وقبل أن تربطي مصيرك بي اعلمي أنني مشروع شهيد"، دون أن يوَضِّح أكثر، أدركت حينها أن له علاقة ما بالمقاومة، فقبلت الزواج منه دون تردد.

كان يعود مساء كل يوم حين يغوص النهار في ظلمات الليل، منهكًا، غارقًا في الأتربة والغبار من قمة رأسه حتى أخمص قدميه، ومع ذلك كانت البسمة لا تفارق شفتيه، والكلمة الطيبة لا تفارق لسانه.

- محمد، ماذا ستسمي ابنك؟

- إن قُدِّر لي أن أحمله بين يدي فسأؤذن في أذنه بمجرد ولادته، وأحنكه كما كان يفعل رسولنا وقدوتنا (عليه الصلاة والسلام) وسأسميه عبد الله، ليكون شجاعًا ومقدامًا مثل عبد الله بن الزبير.

- أيكون هناك ولي عهد على الطريق؟

- لا أدري، ولكني أشعر بتغيرات لم أعهدها سابقًا.

رفع محمد يديه إلى السماء مناجيًا ربه:

- ربي لا تحرمني نعمة الولد الصالح، واجعله عونًا لأمه، وقائدًا يزلزل أعداءك أعداء الدين.

- استوصي خيرًا بأمي يا سلمى.

- أمك هي أمي، وهل لي سواها بعد أن رحلت أمي إلى بارئها؟

- جزاك الله خيرًا، وأنعم عليك.

- ولكن لماذا تتحدث هكذا يا محمد؟!، حفظك ربي لي ولها.

- لا شيء، ولكن لا أحد يعلم ما تخفي له الأقدار.

- حفظك ربي من كل سوء.

راح عبد الله يهزني بيديه بقوة قائلًا:

- أمي، أمي، أرجوك، افتحي الباب بسرعة، ما بالك لا تسمعينني؟!، فربما يكون أبي من بالباب.

ضممته إلى صدري، وأفلتت من عيني دمعة بذلت جهدي لأواريها عنه، وقلت له:

- والدك في جنات الفردوس يا حبيبي، هو عند الله، ولن يعود إلينا، نحن نذهب إليه عندما يشاء الله لنا ذلك.

- ولماذا لا نذهب الآن؟، أنا مشتاق إلى أبي كثيرًا، فأنا لم أره قط.

- أمامك درب طويلة _يا عبد الله_ عليك اجتيازها قبل أن تذهب إلى والدك، فكن شجاعًا بطلًا مثله حتى يفخر بك عندما يراك.

- أعدك بذلك يا أمي، فأنا ابن أبي، وعلى دربه أسير.

*إهداء إلى زوجات شهداء الإعداد.