فلسطين أون لاين

​أمام صخرة الواقع

ثلاث سنوات منذ تخرجي من كلية الهندسة تخصص هندسة ميكانيك وحتى الآن، أمضيتها أعاقر البطالة، وتتناوب الكآبة واليأس على تعذيب روحي ومحاولات اغتيال الطموح والشباب والأمل داخلي. أكره نفسي أحياناً، وأكره الحياة أحياناً أخرى، وأكره وجودي في هذا الوطن السليب الذي يفتك بأحلام أبنائه، بالفساد وجميع ما يندرج تحته من مفردات مرة، وبوقوعه تحت قبضة محتل غاصب لن يهدأ له بال طالما هناك فلسطيني يتنفس على ثراه.

أريق ماء وجهي يومياً بطرق أبواب أصحاب الورش والمحلات وحتى البلديات متسولاً لعمل، أي عمل، حتى لو كان "عتالاً"، أو عامل تنظيف.. لا يهم، فأنا قد تنازلت عن طلباتي التي كنت أطلقها وأنا أنظر من قمة برجي العاجي "أريد عملاً يتلاءم مع شهادتي وتخصصي، وعملاً يليق بمهاراتي".. فأي عمل أقبل به على يدرُّ عليَّ دخلاً أستطيع به العيش بكرامة وبدء حياة مستقلة، دون أن أُضطر لمد يدي لأمي خفية لتدس فيها بضعة "شواقل" على قدر طاقتها لأشتري ما أحتاج، ولا أتعرض لإحراجات حين أكون مع أصدقائي..

وبعد أن بلغ اليأس مني كل مبلغ، طلبت من عمتي التي تمتلك أرض زيتون خلف الجدار أن تقدم لي طلب "تصريح جدار" بحجة أنني سأعتني بزيتونها، وبعد شهر تقريباً صدر التصريح.. لم أصدق نفسي، ها هو ذا كنز ثمين بين يدي. فمنذ فجر الغد سأكون على المعبر باحثاً عن عمل، فحص الجنود وثائقي وتأكدوا من صحتها على الحاسوب، ثم.... ثم، سمحوا لي بالعبور.. تحسست المكعبات الإسمنتية الموجودة أمام لحاجز، وعندما لسعتني برودتها تأكدت بأن هذا واقعاً وليس حلم أغرق فيه. مشيت مسافة طويلة ابتعد من خلالها عن الحاجز، وانتظر أن تأتي أية سيارة تقلني إلى مكان انتظار العمال العرب، وجاءت سيارة بعد فترة طلب سائقها مني 50 شيكلا أجرة، رغم أني أعلم أن المسافة التي سيقطعها قصيرة ولا تستحق هذا المبلغ، ولكن "مكره أخاك لا بطل"، انصعت لطلبه، وناولته المبلغ وانطلقت بي السيارة بسرعة، قبل أن تحضر دورية للجيش وتضبط السائق متلبساً في تلك المخالفة.

انتظرت مع العمال ما يقارب ساعتين، كان الجو بارداً جداً، والأمطار تنهمر فوق رؤوسنا تبلل ملابسنا، ولكن الوقوف في المطر أهون ألف مرة من جلد سياط البطالة والشعور بالإهمال والكآبة. تقدم مقاول عربي من عرب الداخل ناداه أحد العمال "أبا محمد" وسأل إن كان هناك عمال جدد بحاجة لعمل، قفز قلبي داخل صدري، ها هي الفرصة قد أتت بخطى وئيدة ووقف أمامي. تقدمت نحوه، صافحته وقلت له: أنا عامل جديد.

-حسناً، هل معك تصريح، أم أتيت هنا تهريباً؟

-معي تصريح جدار.

-إذن تعال معي، اركب في تلك السيارة.

وأشار بيده إلى سيارة تقلُّ عمالاً وتحوي أدوات بناء. ركبت السيارة، وخلال سيرها، قال لي أبو محمد:

-أعمل الآن أنا وعمالي في ورشة بناء تتكون من عشرة طوابق، على الرغم من أننا نكاد ننهي العمل بها إلا أنني بحاجة لمزيد من العمال لأستطيع تسليمها قبل أن يحين الموعد، ولكن يا أنس، لم تقل لي، هل ستعود للبيت كل يوم وتجتاز الحاجز؟

- نعم وماذا أفعل، لا خيارات لدي.

- ما رأيك أن تنام في الورشة نفسها؟ يوجد غرفة مجزة لمبيت من يرغب من العمال، وبهذا توفر على نفسك عناء السفر والتأخير يومياً.

- حسناً، لا مانع لدي.

- سأعطيك يومياً 300 شيقل، وعلى كل ساعة عمل إضافية 80 شيقل.

- أنا موافق.

كنت عامل بناء، أعمل اثنا عشرة ساعة يومياً أي بمعدل أربع ساعات عمل إضافية يومياً، وأطلب من المقاول أن يشتري لي طعاماً من أي" سوبرماركت" حتى لا أتعرض للاعتقال". شهر كامل مرَّ على ذلك الحال، أنهينا العمل خلاله في تلك الورشة، وأصبحت جاهزة للسكن. لم أستحم خلال تلك الفترة إلا مرتين وبصعوبة، كانت حياتي وحياة العمال الآخرين كقطيع الحيوانات المكدسة داخل حظيرة.

نقلنا أدوات البناء، ونظفنا المكان، وغادر العمال الآخرون، وبقيت أنا ريثما يُحضر أبو محمد لي أجرتي، تأخر عليَّ ما يقارب الساعة، غفوت خلالها على الدرج الأمامي للعمارة. افقت على غرباء يحيطون بي يرتدون ملابس زرقاء داكنة عليها أحرف عبرية، ويضعون قيوداً في يدي ويخبرونني أنني رهن الاعتقال.. حوكمت ودفعت غرامة مقدارها 10000 شيقل لأن تصريح الجدار لا يؤهلني للعمل، ولم يصلني شيقل واحد من أجرتي. عدت بعدها أجر أذيال الخيبة واليأس ورائي.