في عمر الورود ذبل بصرها حتى باتت عاجزة شبه كليًا عن رؤية من تحب، وانتهتْ بها محطات النزوح القسري اللامتناهية من غزة إلى ما لا تحب: الإصابة، والبعد القاهر عن أطفالها وزوجها.
منار الجعل شابة من مدينة غزة، انصبتَّ عليها مآسي حرب الإبادة الجماعية منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وحرمتها من العيش الآمن في منزلها، لتمر في محطات منهكة جسديًا ونفسيًا واجتماعيًا.
"فجأة عند الرابعة فجرًا، سقط صاروخ من طائرة حربية بدون طيار خلف الجدار الذي أتكئ عليه مباشرة"، كانت تلك لحظة فاصلة في حياة منار كما تروي لصحيفة "فلسطين"، من على سرير المستشفى.
حدث ذلك في 30 أغسطس/آب وحينها كانت منار نائمة في غرفة مستأجرة شمال مخيم النصيرات، ويدها على قلبها راجية أن تمر تلك الليلة بسلام على أطفالها في خضم حرب الإبادة الجماعية، بعد أن وزعت نظراتها عليهم كأنها تحتضنهم وتربت على أكتافهم.
كان شريط الأحداث من بداية نزوحها القسري مع أسرتها لا يفارقها، يراودها ككابوس لم تتمنه يوما، ويقفز أمام نظرها لتعيش تفاصيله من جديد.
تمسح منار دمعة فرت من عينها، قبل أن تضيف: "عندما سقط الصاروخ لم أدرك للوهلة الأولى أنه يستهدف هذا المبنى الذي أستأجر فيه غرفة ومطبخًا وحمامًا، ولكن بعدها استعدت وعيي في المستشفى وقد أصبت في أعز ما أملك: بصري".
وهذه الغرفة التي كانت منار تستأجرها هي ما انتهى إليه نزوحها متعدد المحطات قبل الإصابة، انطلاقًا من مدينة غزة مرورًا بالنصيرات والزوايدة وصولًا إلى رفح والعكس.
ولم تكن تلك الغارة الوحيدة على المبنى المذكور، فقد دمرته الطائرات الحربية لاحقًا بالكامل.
ولطالما أحاطت المخاطر بأطفال منار الذين انهمرت في منطقة نزوحهم بالنصيرات القذائف وطلقات قناصي الاحتلال.
اعتقدت منار بداية أنها ستمكث في المستشفى ساعة على الأكثر، لكنها اليوم مقيمة فيه بعد أن أصيبت بعينيها ووجهها وحلقها ويدها اليسرى، وتستدعي حالتها رعاية يشرف عليها الأطباء.
وما زاد الطين بلة هو انفجار هاتفها النقال مع قوة الضربة الجوية.
فقدت منار النظر كليًا بعينها اليسرى، كما أنها لا ترى بعينها اليمنى إلا من مسافة متر واحد، ومن المحتمل أن تتدهور إلى حد انعدام الرؤية.
ووسط الآلام الغائرة في جسدها ونفسها، تلقت منار نبأ كان كبلسم على جراحها، وهو أن يدها التي كان من المقرر بترها، من الممكن أن تستجيب للتدخل الطبي، وألغيت عملية البتر.
لكن يدها هذه بحاجة إلى مشوار طبي طويل خارج قطاع غزة، مع تضرر المفصل والعظام والحروق التي أصابتها.
وتمر الأيام ثقيلة على منار التي تنتظر السفر للعلاج في الخارج بموجب تقرير تحويل طبي.
لكن فرص السفر تتلاشى أمام منار وآلاف المصابين والمرضى مع استمرار الاحتلال "الإسرائيلي" للجانب الفلسطيني من معبر رفح، متنفس الغزيين الوحيد للخارج، وطول حدود قطاع غزة مع مصر منذ مايو/أيار.
ومنار واحدة من 107,764 مصابًا غزيًا منذ بدء حرب الإبادة الجماعية التي أودت بحياة 45,338 آخرين، معظمهم أطفال ونساء، وفق إحصاءات وزارة الصحة.
وإلى أن تعرف مصيرها، ينفطر قلب منار على طفلتها "سيلا" ذات الـ10 شهور التي أصيبت بحروق في وجهها ولم تعد تعرف إلى النوم سبيلًا.
وأيضًا على طفلها عادل (سبعة أعوام) وهو من ذوي الاحتياجات الخاصة، الذي كانت إصابته طفيفة، ولكنه لا يقوى على معاناة أخرى.
وسيلا وعادل، الأكثر ضعفًا بين إخوتهم الذين تكبرهم "فاتن" (13 عاما) يقيمون حاليا في خيمة ببلدة الزوايدة برفقة جدتهم المقعدة التي لا تقوى على رعايتهم، مع انشغال أبيهم بالبحث عن لقمة العيش.
وتأكل المخاوف على هؤلاء الأطفال "روح منار" وهي التي تعلم أن لا مكانًا آمنًا في قطاع غزة مع استمرار حرب الإبادة.
وتعيش الشابة الآن بين مطرقة إصابتها ومصير عينيها ويدها المجهول وبين سندان القلق على أطفالها الذين فقدوا رعاية والدتهم في أهم مراحل حياتهم: الطفولة.
وتتمسك الشابة بأمل الشفاء والعودة إلى أسرتها، تجسد حالها مقولة الشاعر محمود درويش: "وبي أمل يأتي ويذهب، لكن لن أودعه".