فلسطين أون لاين

"دفنتُ عمودَ البيت ونوَّارته"

المُسعف البرديني .. حين صرخَ بأعلى صوته " والله إمّي"

...
المغازي/ فاطمة حمدان

دقائق معدودة كانت مدة تعامل المسعف عبد العزيز البرديني مع حادثة استهداف جديدة للاحتلال "الإسرائيلي" في منطقة سكناه بمخيم المغازي، فالوقت في عرف المسعف كالسيف بالثانية علامة فارقة في حياة المصاب، انتشل ثلاثة مصابين من مكان الحدث فيما حمله أهالي المنطقة جثة شهيدة نائمة على جنبها الأيمن، وضعها في سيارته وعينه وجل تفكيره مع طفل مصاب انتشله من مكان الاستهداف يعاني من نزيف داخلي.

الصدمة الكبرى

دقائق معدودة أيضًا كان قد وصل بها المسعف البرديني لمستشفى شهداء الأقصى حيث عمل وفق بروتوكول العمل المعهود على إسعاف الطفل المصاب " عشرة أعوام" ومحاولة إنقاذ حياته بكل الطرق الممكنة برفقة الكادر الطبي بالمشفى وعندما استقر الحال بالطفل في غرفة العناية المكثفة كان عليه العودة لجثة الشهيدة للإشراف على عملية التعرف عليها من قبل أقاربها. 

وشرع البرديني في تفحص أوصاف الجثة كي يسجلها عنده علّ أحدًا يأتي للتعرف عليها وكشف عن وجهها، وهنا كانت الصدمة الأصعب عليه في حياته فهي تشبه والدته بل إنها هي، يقول عن تلك اللحظات:" لقد دارت بي الدنيا وعجزت حتى عن الحديث، تمنيت أن يأتي أحد آخر ليتعرف عليها، فلا تكون هي أمي، ولكن بعد برهة من الصمت صرخت بأعلى صوتي فهرع لي زملائي على الفور يسألونني عمن تكون تلك الجثة التي سببت لي رؤيتها انهيارًا عصبيًا فكنت أصرخ " والله إمي"". 

لم يتمالك البرديني نفسه وهو يحثو التراب على وجه تلك السيدة التي لم يفارقها يومًا منذ ولادته والتي كان فرحتها الاولى كأول ابن ليس من ذوي الاحتياجات الخاصة تنجبه، ثم يكبر أمام عينيها ويحمل شهادة جامعية أسرت خاطرها لتزهو فخرًا به وبعمله الإنساني. 

يقول والألم يعتصره: " أمي سيدة مكافحة، أنجبت عشرة من الأبناء، وفقدت خمسة منهم في أعمار مختلفة ( كانوا من ذوي الاحتياجات الخاصة) وتبقى لها ولدان وثلاثة بنات معافين أنا أكبرهم عمرًا". 

ويضيف:" اهتمت بي كثيرًا وشجعتني على الدراسة حتى أتممت دراستي الجامعية، وأعمل كمسعف متطوع في الهلال الأحمر منذ عام ٢٠١٧، وبرغم الخطر الذي أتعرض له في عملي في قطاع غزة بسبب الحروب "الإسرائيلية" المتعاقبة والتي لا يقيم فيها الاحتلال للشارة الطبية وزنًا فقد قتل العديد من زملائي إلا أن أمي كانت المشجع الأكبر لي على الاستمرار في أداء رسالتي الإنسانية ". 

فقدان الاعزاء 

ورغم الاستهداف المتتالي لطواقم الإسعاف خلال حرب الإبادة "الإسرائيلية" المستمرة ضد قطاع غزة لعامها الثاني على التوالي وفقدان البرديني لعدد كبير من زملائه الذين تقاسم معهم الخبز والملح وقضى معهم أيامًا وليالي تحت الخطر لإنقاذ الناس الا أنه استمر على رأس عمله بتشجيع من والدته. 

فالبيت أصبح كئيبًا بدونها – يبين البرديني- " كنت أستيقظ على طرق أصابعها على باب شقتي صباحا لتوقظني لعملي حيث أجهز نفسي وأنزل لها بالأسفل فأجدها قد أعدت لي الإفطار والشاي نتناولها معا ثم تودعني بعبارة " الله يسهل عليك" وتظل تترقب عودتي في المساء فلا تنام قبل أن تطمئن على عودتي وتقول لي " الحمد لله عالسلامة"". 

فلم يدر بخلد البرديني أبدًا أن يكون قد مس أحد من أهله مكروه حين وصلته اشارة أثناء تواجده في نقطة الإسعاف في مخيم البريج للتوجه للإنقاذ حيث استهدف الاحتلال "الإسرائيلي" سيارة مدنية في مخيم المغازي حيث يسكن. 

ولكن تبين له لاحقاً أنه بعد عودة والدته من بيت عزاء في مخيم النصيرات حيث كانت حريصة على أداء واجباتها الاجتماعية رغم ظروف الحرب وصعوبة المواصلات فإنها اضطرت لإكمال طريق عودتها للمنزل سيرًا على الاقدام ليسوقها القدر إلى مكان استهداف السيارة حيث ارتقت شهيدة. 

ورغم ما مر على البرديني من مواقف صعبة في عمله من فقدان للزملاء والأصدقاء حيث كان يعتبران  كونه أول طواقم الإسعاف وصولًا لاستهداف مربع سكني في مخيم المغازي خلال الحرب الحالية -ليجد صديق عمره ( معين زيادة) شهيدًا- هي الصدمة الأكبر التي يمكن أن تمر عليه، ليجد أن نقله لوالدته في سيارة الإسعاف شهيدة سيظل أصعب ما مر عليه في حياته. 

وحين وارى البرديني جثمان والدته الثرى فإنه دفن " عمود البيت ونوارته" تلك السيدة المكافحة التي حفرت في الصخر كي تربي أولادها رغم أنها لم تكن متعلمة، وتركت له ميراثًا ثقيلًا من العناية بأربعة أشقاء أصغرهم تبلغ من العمر أربعة عشر عامًا ليكون لهم الأب والام والأخ والسند، ومضطرًا لأن يكون رابط الجاش يواري دموع الفراق المريرة حتى لا تلمحها أعينهم في مقلتيه.