فلسطين أون لاين

"ينتشلُ مشاهدَ عالقة في ذاكرته من تحت الرّكام"

تقرير نشأت زنداح .. قصّة ضابط إنقاذ فقدَ قدمه أثناء عمله الإنساني

...
غزة/ يحيى اليعقوبي

"في صوت طفل. هيه ببكي. عمو تخافش احنا جايين ننقذك. احفر بالراحة.. بدناش السقف يوقع عليه" كلها كانت أصوات حوارات بين ضابط الإنقاذ بجهاز الدفاع المدني  نشأت زنداح (42 عامًا) وزملائه الذين يحاولون إنقاذ طفل عالق بين الركام بعد أربعة أيام من قصف المنزل بقي الطفل خلالها على قيد الحياة.

لمدة ساعتين وبوسائل يدوية استمر عمل الطاقم في إزالة الركام، وقص الأحزمة، وتكسير الحجارة الإسمنتينة، ورفع الرمل والحجارة حتى خرج الطفل سليما، وتفاجأ الطاقم بعدم وجود أي خدوش عليه، وكذلك حالته الصحية الجيدة بعد أيام لم يأكل أو يشرب، ولم يعلم الطفل أن معظم عائلته استشهدوا ومن نجا مصابًا كان يرقد بالمشفى.

كان الموقف السابق، أحد المشاهد العالقة بذاكرة زنداح منذ بداية حرب الإبادة الجماعية التي يشنها، واجهت خلالها طواقم الدفاع المدني صعوبات كبيرة، استشهد العشرات منهم خلال العمل وأصيب المئات، كان زنداح الذي بترت قدمه أحد هؤلاء الطواقم.

وفي عمل مضنٍ وجهود كبيرة تبذلها طواقم الدفاع المدني، تتضاعف المسؤولية الملقاة على طواقم الإنقاذ عندما تصلهم إشارات متزامنة لاستهداف بيوت ووجود شهداء ومصابين عالقين، أو عندما تكون في مهمة انتشال شهداء ولم تستكمل وتأتي إشارة باستهداف منزل آخر، مما يدفعهم للذهاب نحو المهمة الجديدة والعودة لاحقا لاستكمال المهمة غير المستكملة، ويحدد ذلك وجود أحياء من عدمه.

الإشارة الأخيرة

ظهر 3 ديسمبر/ كانون أول 2023، وصلت إشارة لطاقم الدفاع المدني بوجود قصف إسرائيلي لمنزل عائلة بشارع الشهداء وسط المدينة، ووجود شهداء ومصابين، وكان من ضمن الطاقم  ضابط الإنقاذ زنداح.

بعد وصول الطاقم إلى المكان لم يكن يعلم عن وجود قنبلة غير منفجرة تحت الردم، وأثناء عملهم بانتشال المصابين والشهداء، سقط صاروخ آخر على طرف البناية فحدث انفجار ضخم بعد تفعيل القنبلة غير المنفجرة، فأصيب وبترت قدمه اليمنى أما القدم الأخرى فأصابها كسور بالكاحل وإلى اليوم يوجد بها بلاتين (مثبت عظام)".

ينتشل زنداح  بقية التفاصيل من الذاكرة يروي لـ "فلسطين أون لاين" قصته: "خرجنا خمسة أفراد من الطاقم لم نكن نعلم بوجود القنبلة غير المنفجرة، انشغلنا بإخراج الناس، وتفعلت القنبلة مع الانفجار الآخر، وغبت عن الوعي ولم أدرك ما حدث".

لمدة سبعة أشهر مكث زنداح بمستشفى الأهلي المعمداني بمدينة يتلقى العلاج، كان فقد قدمه أصعب حدث في حياته، لأنه حرم من مهنته التي يعمل بها منذ عام 2006 وعاصر خلالها عدة حروب، وابتعد قسرًا وبسبب الإصابة عن انقاذ حياة المصابين وانتشالهم من تحت الردم.

ومما فاقم المعاناة النفسية والصحية لزنداح وجود زوجته وأطفاله الأربعة بمحافظة دير البلح فواجه الإصابة وحده، إضافة لشح الغذاء إذ لم تلتئم كسور قدمه الأخرى حتى اليوم، فضلا عن غياب معظم الأدوية، مع حاجته الملحة للسفر لتركيب شرائح أسفل القدم.

كان هدف زنداح بالأساس لإرسال العائلة نحو جنوب القطاع، هو أن يتفرغ للعمل في الإنقاذ على مدار 24 ساعة، ولم يتوقع أن يصبح قعيدا بعد فترة وجيزة ويحتاج إلى عائلته ولا يستطيع الوصول إليهم، يلفت بمرارة "هم تأثروا كثيرا، كل تواصل بيني وبينهم يعبرون عن شوقهم لي، خاصة أنهم يريدون الوقوف بجانبي بهذه المحنة بعد الإصابة".

على مدار رحلة علاجه كان الألم ينخر عظامه، فلا أدوية متوفرة لتسكن أوجاعه، ولا زوجة وأبناء يطبطون على جراحه، "لم يكن سوى أخ لي يسهر على رعايتي"، مشددًا، "احتاج للسفر للعلاج حتى أستطيع الوقوف على قدمي الأخرى".

عن صعوبة الإمكانيات، يقول "لا يوجد لدينا إمكانيات، فأحيانا يسقط علينا أسقف البيوت المهدمة، كما أن الكثير من سياراتنا تعرضت للقصف، وأغلب الأوقات يكون المبنى مهدوما أو جزء منه مهدما، أحيانا تكون القذائف غير المنفجرة غير ظاهرة لنا، او بداخل الأرض قد يظهر طرفها، وهذا يشكل خطرا كبيرا".

وكثيرا ما تتعثر طواقم الدفاع المدني بتلك القذائف خلال مهمات الانقاذ، وفي حال لا يوجد مصابين بالمكان المستهدف فإن الطاقم يغادر المنطقة لاحتمالية انفجار الصواريخ غير المنفجرة كما حدث معه.

استكمال مهمات خطرة

لكن في بعض المرات وأمام وجود جرحى ومصابين اضطر زنداح وفرق الإنقاذ لاستكمال المهمة حتى مع وجود قنبلة غير منفجرة، يعلق وهو يستحضر أحد المواقف "لم نكن نترك المصابين والجرحى، ونحن نسمع أصوات الاستغاثة: "مشان الله خدوني".

يحتم الواجب الإنساني على زنداح، المخاطرة بنفسه حتى عندما تكون القنابل غير المنفجرة ظاهرة لهم، مع وجود صوت استغاثة وصراخ من بعث من أسفل البيوت المستهدفة: "مشان الله ساعدونا" وتكرر هذا الصوت كثيرا خلال مهمات الإسعاف والإنقاذ، يعلق: "على قدر خطورة تلك اللحظات، فإننا لا نغادر المكان، ونسلم أرواحنا لله ونستمر في العمل المحفوف بالخوف والقلق".

الدفاع2.jpg

ينتقي أحد المواقف من جيوب الذاكرة، "في إحدى المرات كانت عائلة تستنجد بنا، بعد قصف المنزل بعدد من الصواريخ أحدها لم ينفجر، وكنا نسمع أحدهم يصرخ بوضوح: "شايفنكم، ساعدونا"، لا نستطيع المغادرة بهذا الموقف حتى مع احتمالية انفجار الصاروخ واستشهادنا بالمكان".

يكمل بفخر بما فعله "بقينا بالمكان لعدة ساعات حتى أخرجنا آخر شخص عالق أسفل الردم، وكنا نزيل الركام بأدوات بسيطة".

التحق زنداح بجهاز الدفاع المدني عام 2006، وحصل على دورة في الإنقاذ والإطفاء، والذي أصبح تخصصه وعاصر كل الحروب، لكن ما رآه في هذه الحرب ليث له مثيل فيما مضى من حروب عدوانية على قطاع غزة.

يقول عن دموية الاحتلال: "هذه الحرب مدمرة بشكل غير عادي، بإمكانياتنا البسيطة كنا نذهب لإزالة ركام منزل أو شقة مستهدفة، أو عمارة سكنية، أو حتى برج كامل يتم قصفه، وهذا مثل عبئا كبيرا على طواقم الإنقاذ".

كثيرة هي المواقف التي أنقذ فيها زنداح ناجين من تحت الركام، لكن مشاهد الأطفال هي التي استحوذت على ذاكرته وعلقت بها، لم يتخطَ صوت طفل يطرق ذاكرته مجددًا: "كنت في مهمة وسمعت بكائه، فاتجهت نحو الصوت وأزلنا السقف الذي كان فوق رأسه بنحو 20سم، وعندما أخرجناه ابتسم وضحك".

وإن كان هذا المشهد أسعده، فمشاهد كثيرة أدمت قلبه، لحظة انتشال أطفال رضع شهداء أو أشلاء، في مشهد لا يتخيله العقل، بأن تحدث هذه الإبادة على مرأى ومسمع من العالم.

لم ينسَ ذلك المسن الذي طلب قبل إخراجه من تحت الركام، سقايته بالماء، فقام زنداح ورفاقه بأمداد أنبوب بلاستيكي ثم سكب مياه بداخله التي روت عطش المسن بعد ساعات كان عالقا فيها تحت الردم.

تغلف الحسرة صوته بعد ابتعاده عن العمل "أريد العودة للعمل ومشاركة زملائي لما لهذه المهنة من أجر وثواب عظيم عند الله، لكن بترت قدمي والقدم الأخرى لا أستطيع السير عليها".

ويؤكد، "الإنقاذ جزء من حياتي، فالواجب الإنساني يحتم علينا مساعدة الآخرين، كما أن ديننا يحثنا على المساعدة، ومهنتك تتطلب هذا النوع من العمل الإنساني".