لا يعلم الإنسان فترة عمره أو موعد وفاته غير أن "حفّار القبور" رجب كامل المناعمة "أصابه حدس" بذلك وحدد قبرًا "ليستراح فيه" بجوار من أحبّه.
يبدو أن الأمر مدهشًا، لكنه ليس بالعجيب أو الغريب على إنسان قضى 24 عامًا في عمله بحراسة "قبور الأموات" داخل مقبرة النصيرات (السوارحة) وسط قطاع غزة.
منذ عام 2000 حتى 2024م لم يتوقف المناعمة (55 عامًا) يوما واحد عن حفر القبور عبر آلة الحفر (الكباش) تمهيدًا لساكنيها من الأموات والشهداء.
المناعمة الذي ذاع صيته وكنيته (أبو أنس) بين أبناء المخيم وخدمته لهم في حفر قبور أمواتهم ولو عبر الفأس، يسكن في بيت بسيط داخل المقبرة التي أضحت جزءًا من حياة أسرته ومحطات حياتها.
يعلم هذا الحارس جيدا المقبرة (44 دونمًا) وطوابير قبورها الطويلة المتباعدة بين الشهور والسنين حتى أنه نقل الأمر لأولاده؛ رغبة في نفع عموم الناس.
وفي إحدى مراسم دفن أحد الشهداء، أخبر أبو أنس مراسل "فلسطين أون لاين" في حديث هامشي أن نحو 3000- 3500 شهيدًا دفنوا في المقبرة خلال عام من معركة "طوفان الأقصى".
وحدّد الحارس هذا العدد من خلال الإشراف والحفر خلال عام من "حرب الإبادة" المستمرة على قطاع غزة والتي بلغ عدد شهداءها أزيد عن 41 ألف شهيدا.
النجل البكر أنس يعلم أن والده يمتلك كنزا من المعلومات عن المقبرة خلال سنوات عمله حتى التصق به وأصبح "مستودع أسراره".
يستذكر أنس زيارة والده لبيت العائلة الجديدة في بلدة الزوايدة وسط القطاع، واشتياقه لحفيدته أيلول التي "لم يشبع من حبها ولا دلالها" حتى تسللت الغيرة إلى قلب عماتها.
يذكر موقفًا خلال أيام الحرب جمع فيه الأب أفراد العائلة "أنس، محمد، عبد الله" وابنتان "إسلام، هديل"، وأخبرهم أنه يرفض مغادرة "السكن البسيط في المقبرة"، وقال آنذاك: "البيت الجديد ليس بيتي .. هذا بنيته لكم".
أنس الذي لم يفتأ من أدعية الرحمة والسكينة لوالده، لم يتعجب من نبأ استشهاده، فهو "صاحب السر الأخير".
وفي ذات يوم من أيام الحرب، اصطحب حارس المقبرة نجله وأبلغه أن أجله اقترب وحدد له قبرًا ليسكن فيه وتحديدا بجوار والده جد أنس.
أيام قليلة مضت على "السر الأخير"، ليرتقي "حارس الأموات" شهيدا برفقة نجله الصغير عبد الله 15 عامًا إثر قصف جوّي من مسيّرة "إسرائيلية" داخل المقبرة التي عاش وارتقى واستراح فيها.
لا يتعجّب أنس من ارتقاء "عبد الله"، فالجميع يعلم أن الصغير هو "المدلل والأقرب" للوالد ورفيق طلعاته.
يستذكر موقفًا وتحديدًا وقت النزوح من مخيمات وسط القطاع، حينما اضطرت العائلة قسرًا إلى النزوح نحو مدينة رفح جنوب القطاع إلا أن الوالد رفض نزوح "عبد الله" آنذاك.
في ذاك الموقف سادت العاطفة قلب أنس وأصرّ على نزوح شقيقه الأصغر؛ خوفا عليه من القصف "الإسرائيلي" إلا أن التعلق بين الاثنين "غلب الأمر" وبقيا داخل المقبرة التي لا تضم قبورًا للموتى فقط بل معدات وآليات لبلدية النصيرات.
2 أكتوبر/ تشرين أول 2024م هو ذاك اليوم الذي رحل فيه "حفّار القبور" أو "حارس الأموات" كما يناديه البعض، ليكمل "أنس" مهمة الأب التي عشقها وعشق المكان الذي رفض الخروج منه حيا وميتا.