سار الطفل كريم ثابت بخطوات واثقة نحو طموحه في عالم الكاراتيه حتى حصل أخيرا على الحزام الأزرق، لكنه اليوم مبتور القدمين، بفعل قصف "إسرائيلي".
ممدّد على ظهره بلا حول ولا قوة، تنهش جسده الحروق من الدرجة الثالثة، لا يملك سوى إلقاء نظرات الحزن كلما فتح عينيه مغلوبًا على أمره، ينعى طموحه وحلمه كما نعى أباه الشهيد قبل أيام، وأخاه الصغير منذ شهرين.
"لماذا أنا هنا؟ وبأي ذنب؟"، سؤالان لم ينطق بهما كريم (13 عاما) الذي لا يقوى على الكلام، لكن نطقت بهما عيناه.
يعكر الوجع والجرح صفاء بشرته القمحية التي تسحق براءتها جريمة قصف منزل عائلته مرتين، قبل أن تحل الفاجعة باستهداف منزل جدته، والدة أمه، كنقطة تحول في حياته.
في فبراير/شباط حطت الآلام على أسرة كريم، بقصف الشقة التي تقطنها في دير البلح وسط قطاع غزة.
زاد ذلك من أعباء حرب الإبادة الجماعية التي يشنها الاحتلال "الإسرائيلي" على القطاع منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، وتعاني منها أسرة كريم أسوة بسائر الغزيين.
لا يعرف سامر، شقيق كريم الذي يرعاه في المستشفى من أين يبدأ الحكاية، ولا ترسو نبرة صوته سوى على حبال الحزن الممتدة على مدار عام تشردت خلاله أسرته، وفقد أباه وأخاه الصغير، بينما يعد أخوه كريم الأيام دون أمل في التحسن صحيا.
"أول مرة قصف الاحتلال شقتنا واستشهدت جدتي، والدة أبي.."، يتحامل سامر على نفسه لسرد فصول الأحداث، في حديثه مع "فلسطين أون لاين".
نجا سامر وأسرته آنذاك من القصف ولجؤوا إلى بيت جدته، والدة أمه، لأسبوعين، ثم عادوا إلى المبنى الذي استهدف فيه الاحتلال شقتهم، ومكثوا في شقة عمه شهرًا.
خلال تلك الفترة، قصف الاحتلال منزل جيران عائلة ثابت، وأوقع منهم 30 شهيدًا، لكن أسرة سامر بقيت في المبنى الذي تقطن فيه.
بأسى يقول سامر: لم نتوقع أن يقصفنا الاحتلال مجددًا، لكن شهرًا واحدًا كان الفاصل الزمني بين استهداف منزل جيراننا وقصف المبنى السكني لعائلتنا بالكامل.
أسفرت تلك الضربة الجوية التي وقعت في مارس/آذار عند الواحدة والنصف ليلًا، عن استشهاد 11 شخصًا من عائلة سامر، في حين أخرج هو وإخوته ووالداه من تحت الأنقاض بإصابات وصفت بالطفيفة.
ومن بين الشهداء عم سامر وثلاثة من أبنائه وزوجته وعمته وأولادها، يتنهد سامر، قبل أن يضيف: مرة أخرى لجأنا إلى منزل جدتي، حاملين معنا جراحنا، وهمومنا.
في 15 يوليو/تموز، عند الواحدة ظهرا تغير كل شيء في حياة كريم وسامر وأسرتهما.
كان سامر وأبناء خاله حينها يملؤون خزانات المياه التي بالكاد يحصلون عليها وسط حرب التعطيش والتجويع والإبادة.
ينصت كريم إلى أخيه وهو يروي ما لا يغيب عن ناظريه: عندما انتهينا من ملء الخزانات هممنا لأداء صلاة الظهر، ليتوجه كل منا بعدها إلى انشغالاته، لكن صاروخًا "إسرائيليًا" كان أسرع إلينا من ذلك.
كأن المصائب لا تأتي فرادى، بل كسيل جارف يحمل معه وجع القصف والفراق والإصابة.
أقسى الفاجعات
هذه المرة كانت الأسرة على موعد مع فراق الجدة التي ارتقت شهيدة بالقصف الغادر الذي لا يترك مسنا ولا طفلا، وانفطرت قلوب أفراد الأسرة المثقلين بهول الجريمة، باستشهاد الطفل فريد (عام ونصف) وهو الأخ الأصغر لكريم وسامر.
أما كريم الذي كان للتو يتخيل كيف سيبدو عندما يحصل على الحزام الأسود في الكارتيه بعد منافسة ينوي خوضها، فبترت قدماه وحرق معظم جسده.
لكن هذا ليس هو الهم الوحيد لكريم، فقد استشهد أخوه فريد البالغ من العمر عامًا ونصف العام، ولم تشفع له براءته من أن يكون ضحية لهمجية الاحتلال.
تعاقبت الليالي القاتمة على كريم وأسرته، وأوغل الألم في نفوسهم، وترك فيهم جروحًا لا تشفى، أكثرها عمقًا إصابة أبيه.
ظل كريم يمني نفسه بأن تعود إلى أبيه عافيته، قبل أن يتمنى أن تندمل جروحه هو، لكن واحدة من أقسى الفاجعات وقعت في الأول من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري عندما فاضت روح أبيه (43 عاما) إلى بارئها.
ويغبط سامر أباه على الشهاده قائلا: "نياله.. نفسي أستشهد"، بينما يترقب مآلات الوضع الصحي لكريم مع عدم حدوث أي تحسن في درجة الحروق.
في ظل ذلك تغمر والدته من تبقى من أفراد الأسرة بمشاعر الصبر والاحتساب.
لكن يعز على الأسرة أن كريم الذي وصل إلى الحزام الأزرق في الكاراتيه وحصد بطولات على مستوى القطاع ونافس على الحزام البني كان يتطلع إلى التوجه للضفة الغربية مصطحبًا شغفه لنيل البطولة على صعيد فلسطين في هذه الرياضة.
"جاءت حرب الإبادة ودمرت كل ما كان يرنو إليه كريم وحطمت مستقبله كاملا"، بصوت متحشرج يتابع سامر.
ولا يزال الوعد الذي قطعه والد كريم له بمساعدته في السفر للمنافسة في الكاراتيه إذا حصل على الحزام الأسود، يرن في أذنيه، لكنه بات يعلم أنه تحول إلى حلم مستحيل.
هكذا تبدد الحلم، وبات كريم لا يملك إلا مصيرًا مجهولًا.