بمعطفه الأبيض يتمترس أخصائي الطب المخبري الستيني حسام حمد خلف بضعة أجهزة تحاليل طبية، لكن هذه المرة في خيمة على شاطئ بحر دير البلح، بدلا من مختبره الذي شيده قبل 35 عاما في بيت حانون.
برمشة عين انهار إنجاز حمد، الذي حققه على مدار أكثر من ثلاثة عقود، عندما سوت صواريخ الاحتلال مختبره وهو الأول في البلدة الواقعة شمال قطاع غزة بالأرض.
ويعود ارتباط حمد بالتحاليل الطبية إلى عام 1988 عندما تخرج من هذا الاختصاص في رام الله، قبل أن يكمل تعليمه بغزة، ويعمل مديرًا للمختبر في مستشفى العودة 15 عامًا، ثم يلتحق بوزارة الصحة.
يحدق بأجهزته التي يشغلها عبر الطاقة الشمسية في ظل قطع الاحتلال للكهرباء، قائلا لـ"فلسطين أون لاين": إبان تخرجي كانت التحاليل الطبية نادرة والمختبرات معدودة على الأصابع في القطاع ولم يكن في بيت حانون وجباليا البلد وبيت لاهيا مختبرات.
"بالكاد صدق الناس حينها أن مختبرًا للتحاليل الطبية افتتح أخيرًا، وكنا نعمل بأجهزة بدائية ونفحص الدم عن طريق اللون، ونستخدم الميكروسكوب ذا العين الواحدة"، يسرد حمد بعضًا من محطات بداية عمله.
ويصف مشواره في بناء المختبر بأنه "كابن كبر أمام ناظريه"، مردفًا: كل الأجهزة الجديدة تابعتها، وأحيانا بعت ذهب زوجتي أو استدنت من إخوتي وأصدقائي لشرائها، لأنني معني بالتطور وأواكب كل جديد فيه مصلحة للمريض.
خطى البداية
لكن حمد بات يحمل على كتفيه ثقل كارثة حلت به وبمشروع حياته وإرثه في مجال التحاليل الطبية، إذ أجبره القصف العنيف على بيت حانون في أكتوبر/تشرين الأول على النزوح، قبل أن يتلقى نبأ قصف منزله ومختبره المكون من طابقين.
ويعود حمد إلى ذلك التاريخ، ذاكرًا أن الاحتلال صب "الحمم والبراكين" على بيت حانون، لتبدأ رحلة النزوح في أربع محطات كان آخرها مواصي دير البلح.
ويصف القصف الذي تعرضت له بيت حانون واستهدف المواطنين العزل بأنه شرس وغير مسبوق.
ولم يحزن حمد على منزله بقدر حزنه على مختبره المجاور لمستشفى بيت حانون "لأنه يمثل لي رأس مالي وحياتي وأرى فيه نفسي".
ويبين أن تكلفة الأجهزة التي كان يمتلكها في مختبره تقارب 65 ألف دولار.
وكان حمد يمتلك ثلاثة أجهزة هرمون وجهازي فحص دم "سي بي سي" وجهازي كيمياء وغرفة كاملة للمزارع.
وعندما حطت رحاله في رفح قبل أن يشن الاحتلال عدوانه عليها، عمل حمد في العيادة الحكومية بحي تل السلطان غرب المدينة على مدار ستة أشهر.
ويقول: حاولنا مساعدة المواطنين قدر المستطاع وعملنا بجهد مضاعف.
يتنهد حمد ثم يقول: الاحتلال ضد الطب والتعليم وأي شخص مثقف، مدللًا على ذلك باستهداف الأطباء.
لكن كأنما عاد الزمن بحمد إلى الوراء وهو يتلمس خطى البداية من جديد في الخيمة التي حولها إلى مختبر.
وقرّر حمد رغم معاناته من النزوح في خيمة وشح المياه وضنك العيش في ظل حرب الإبادة الجماعية شق طريقه مرة أخرى بجهد فردي "لأنني وضعت في قناعتي أن أنجح".
وبالكاد تغلب على محدودية الإمكانات ليشتري بما تبقى من ماله بعض أجهزة التحاليل الطبية عندما كان نازحًا في رفح.
لكن ينقص عمله العديد من الأجهزة اللازمة لإجراء تحاليل منها فحص الدم الذي تبلغ تكلفته خمسة آلاف دولار.
ويبين في الوقت ذاته أن المواد الخاصة بإجراء فحص الدم آخذة بالنفاد، وبالكاد موجودة في المستشفيات، واصفًا ذلك بأنه "كارثي".
ويبدي حمد ألمه لتسبب ظروف العدوان بتسجيل إصابات بمرض الكبد الوبائي وجرثومة المعدة والديدان والإسهال وغيره.
وعن غرابة إقامة مختبر في خيمة يقول: "كما استوعبنا النوم مع أسرنا في خيام، نستوعب هذه الفكرة".
ويعتقد أن التحاليل الطبية مهنة وطموح "فهي حلقة وصل بين كل المحافل الطبية، ويحتاج الطبيب سواء كان جراحًا أو متخصصًا في الباطنة أو الجلد أو غير ذلك إلى إجرائها ليتمكن من التشخيص".
ويتابع: المختبر الطبي شيء جميل والعمل فيه ممتع.
ولتعلقه بمجاله، تخصص اثنان من أبنائه بالتحاليل الطبية.
ويركز حمد في عمله على علم الدم وقد التحق بدورات متعددة فيه، مبينًا أن كل أخصائي تحاليل طبية يبدع في مجال ما.
هكذا بدأ حمد حياته المهنية من الصفر في خيمة، لكنه يأمل في تمكنه من التوجه إلى بيت حانون قريبا ليعيد بناء "حلمه" الذي دمره الاحتلال.