أطلقت إسرائيل الكثير من الأقوال، أرغت وأزبدت وتوعدت، وضعت أهدافًا لمحو حماس والقضاء عليها عسكريًا وسياسيًا وأسر قادتها، واستعادة الأسرى. بعد تسعة أشهر من الحرب المتواصلة، كان نتنياهو يؤكّد أنّ معركة رفح ستشكل مرحلة فاصلة على طريق تحقيق إسرائيل نصرًا كاملًا ينهي حكم حماس للقطاع.
لكن، بعيدًا عن نتنياهو وبعض قادة حكومته، تتابعت تصريحات تعبّر عن واقع مختلف على ألسنة قادة عسكريين ومعلّقين. على الأرض، لم يتحقق شيء مما وضعته إسرائيل من أهداف للحرب. هذا كله وضع قادة الاحتلال السياسيين والعسكريين في مأزِق إستراتيجي خطير.
والسؤال الذي يطرح نفسه: ماذا كان يفعل جيش الاحتلال طوال الأشهر التسعة الماضية، إذا لم يتمكن من تحقيق أي من أهداف الحرب، رغم الدعم الأميركي والقدرات العسكرية والنارية التي دمّرت قطاع غزة تقريبًا، لكنها لم تقضِ على حماس؟
الواقع أن جيش الاحتلال لم يحقّق طوال تلك الأشهر إلا إنجازات تكتيكية، قد تكون أضعفت الكتائب القتالية للمقاومة، لكنها لم تؤدِّ إلى القضاء على حماس أو تفكيكها ونزع سلاحها. على العكس من ذلك، عادت الحركة إلى جميع المناطق التي انسحبت منها سابقًا، وانسحب الجيش من المناطق التي توغل فيها، وذلك بسبب تصاعد عمليات المقاومة، التي كبدته المزيد من الخسائر، وقلة قواته القتالية القادرة على السيطرة على الأرض.
القوات الإسرائيلية أيضًا استبد بها الإرهاق والتعب بسبب طول مدة الحرب، وهناك نقص كبير في المعدات والذخائر، رغم الدعم الأميركي والغربي الواسع. وساهم في تعقيد الموقف تعدد جبهات المواجهة التي تورط فيها، وأجواء الانقسام السياسي والعسكري حول الرؤية المستقبلية.
في المقابل، يشير معهد الحرب الأميركي إلى أنّ حماس تعيد بناء قوتها السياسية والعسكرية. وهذا أمر لا شكّ فيه، فالحرب لم تضع أوزارها، وقد تستمر لفترة قادمة. هذا ما يدفع حماس إلى إعادة تشكيل قواتها في جميع المناطق التي انسحب منها الجيش الإسرائيلي، آخذة بعين الاعتبار القدرات العسكرية المتاحة والتطوّرات الميدانية.
تركز حماس حاليًا على ثلاث نقاط رئيسية:
1- المضي في العمل القتالي والسياسي والإداري، وإن بوتيرة أقل من السابق، وهي خطوة مهمة لاستعادة السيطرة على الوضع المضطرب.
2- إعادة تنظيم البنى التحتية والتصنيعية، بما في ذلك إعادة توزيع الموارد المتاحة؛ لتعزيز الكتائب التي تضررت نتيجة العمليات العسكرية.
3- القيام بعملية تجنيد للشباب لإعادة تشكيل الكتائب القتالية والإدارية.
التراجع المنهجي
لنراجع بعض التصريحات والتقييمات التي تكشف الصورة الأخرى للطرف الإسرائيلي، لنلحظ التراجع الكبير عن أهداف الحرب التي أعلنت في بدايتها، وحالة اليأس وعدم اليقين التي تملأ الأجواء، واختفاء الحفاوة بالرأي الذي كان يقول إن الضغط العسكري هو الذي سيحقق الأهداف ويحسم الأمر.
نذكر تصريح المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي دانيال هاغاري الذي قال للقناة 13 الإسرائيلية: إن "الحديث عن تدمير حماس هو ذر للرماد في عيون الجمهور. حماس فكرة متجذرة في قلوب الناس، وأي شخص يعتقد أنه يمكننا القضاء عليها، مخطئ".
بعده، ظهر آمر اللواء الثاني عشر في فرقة سيناء 252، وهي الفرقة المعنية بحماية الحدود مع مصر، والتي تم استدعاؤها للقتال في رفح بسبب النقص الذي يعاني منه الجيش في القوة القتالية نتيجة الإنهاك والاستنزاف والخسائر، حيث أدلى آمر تلك الفرقة، العقيد ليرون باتيتو، بتصريحات غير مسبوقة تخص الحرب في غزة، حيث قال: إن "تفكيك القدرات العسكرية لحركة حماس في مدينة رفح سيستغرق عامين آخرين على الأقل".
وأضاف: "مهمة القضاء على حماس ليست سهلة، والأمر يتطلب وقتًا وضغطًا عسكريًا كبيرًا. حماس تدير في رفح حرب عصابات عبر مجموعات مستقلة مما يجعل التعامل معها أصعب، ومن يعتقد أن صفارات الإنذار ستتوقف خلال العام المقبل فهو يذر الرماد في عيون الإسرائيليين".
قال الوزير في حكومة الحرب الإسرائيلية الجنرال غادي آيزنكوت: إن "من يقول إننا سنفكك كتائب رفح التابعة لحماس ونعيد المخطوفين كمن يزرع وهمًا كاذبًا".
ونقلت صحيفة هآرتس عن ضابط كبير في الجيش الإسرائيلي، رفض ذكر اسمه، قوله: إن "حماس غيرت تكتيكات الحرب وباتت أكثر تركيزًا في تفخيخ المباني". وأضافت الصحيفة: "التقديرات التي يقوم بها الجيش ليست صحيحة فيما يتعلق بالبنى التحتية لحماس".
وصرح قائد إدارة القتال في لواء ناحال 933 بأن "القوات الإسرائيلية يمكن أن تبقى منخرطة في محورَي فيلادلفيا ونتساريم عدة أشهر إضافية، وربما سنوات". نستطيع أن نلمح في هذا التصريح الأخير غياب الرؤية أو الإستراتيجية العسكرية الواضحة، فكل ما يعرفه القائد هو فكرة عامة تقول إنهم قد يبقون أشهرًا أو سنوات؛ انتظارًا لاتضاح الرؤية السياسية للتعامل مع القطاع.
أما وزير الزراعة الإسرائيلي آفي ديختر فقال بوضوح: إن "القضاء على قدرة حماس على حكم قطاع غزة لا يزال بعيدًا عن التحقيق".
وقال اللواء المتقاعد إسحاق بريك: إن الجيش لا يملك القدرة على إسقاط حركة حماس، والاستمرار في الحرب سيكبد إسرائيل خسائر جسيمة، ويؤدي إلى انهيار الجيش والاحتياط خلال فترة وجيزة، كما سيتسبب في انهيار الاقتصاد وتدهور العلاقات الدولية. وحذر من أنّ الانخراط في جبهة جديدة سيدمر إسرائيل، في إشارة إلى تصاعد المواجهة على جبهة الشمال مع لبنان.
تبدو التصريحات السابقة كتبريرات لفشل الجيش الإسرائيلي في تحقيق أهداف الحرب بعد تسعة أشهر من قتال ضارٍ أحرق الأخضر واليابس في قطاع غزة، لكنه لم يستطع القضاء على حماس. فإذا كان ما تحقق لا يزيد على أهداف تكتيكية لا توازي قدرات ذلك الجيش، فلا بد، إذن، من سُلم للنزول عن الشجرة، وهذه التصريحات تحاول أن تقوم بهذا الدور.
إستراتيجية عسكرية فاشلة
وضعت إسرائيل إستراتيجية عسكرية فاشلة لم تكن مناسبة لتحقيق أهدافها من الحرب. وكما يقول "ليدل هارت"، المنظر الأوّل للحرب غير المباشرة، فإن "أحد أسباب إطالة أمد الحروب هو عدم تطابق الوسائل المستخدمة مع الأهداف المطلوب تحقيقها".
أهداف الحرب تفوق قدرة الجيش الإسرائيلي، فهو يفتقر – على مستوى ضباطه وجنوده – إلى الخبرة الميدانية اللازمة للقتال في مناطق مبنية معقدة. كما أنه يقاتل في بيئة جغرافية معادية تمامًا، ويعاني نقصًا كبيرًا في المعلومات الاستخبارية عن فصائل المقاومة.
آخر حرب نظامية خاضها الجيش الإسرائيلي كانت عام 1973. بعدها، كانت أغلب حروبه جوية وصاروخية تتحاشى التدخل العسكري المباشر إلا في أضيق الحدود. لذا، فهو يفتقر إلى الخبرة الميدانية والاستخبارية للقتال بأسلوب حرب العصابات.
كان لافتًا تزايد التصريحات التي يدلي بها القادة الميدانيون في الجيش، ومن بين ذلك، تصريحات أدلى بها قائد الفرقة 98 مطالبًا القادة السياسيين، "أن يكونوا جديرين بالتضحيات التي أظهرها الجنود"، في انتقاد واضح ولاذع لانقساماتهم. دفع هذا رئيس الأركان هرتسي هاليفي إلى توبيخه واتخاذ إجراءات تأديبية ضده "لإضراره بمكانة الجيش".
ومثلما حدث مع ذلك القائد، فقد توقف الناطق الرسمي باسم الجيش دانيال هاغاري عن الإدلاء بتصريحات بعد أن أقر بعدم قدرة الجيش على تفكيك حماس، وكان هذا مؤشرًا على القيود المفروضة على القادة العسكريين لإجبارهم على الصمت.
ولكن الأمر تغيّر بعد ذلك، وما كان يواجه بالعقاب والإجراءات التأديبية، أصبح يواجه بالصمت، وهكذا تجاهلَ رئيس الأركان تصريحات صادرة من قائد اللواء 12 وقائد إدارة القتال في لواء ناحال 933. هذا الصمت يشير إلى احتمال صدور توجيهات تسمح للقادة الميدانيين بالإدلاء بمثل هذه التصريحات، ربما لتبرير فشل الجيش، وللتمهيد لمرحلة جديدة يتوقف فيها القتال، ويستبدل بصفقة لتبادل الأسرى.
يمكن القول، إذن، إن العملية العسكرية الإسرائيلية قد استنفدت أغراضها، وليس بمقدور جيش الاحتلال إضافة إنجازات أخرى مهما طال أمد الحرب. بل على العكس، قد يؤدي طولها إلى انهياره، كما يقول اللواء إسحاق بريك.
أكدت صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية هذا الرأي، وذكرت أن كبار الجنرالات في إسرائيل يريدون "بدء وقف إطلاق النار في غزة حتى لو أدى ذلك إلى إبقاء حماس في السلطة في الوقت الحالي"، ويعتقد بعض هؤلاء أن الهدنة ستكون أفضل وسيلة لتحرير حوالي 120 أسيرًا إسرائيليًا لدى فصائل المقاومة في غزة، أحياءً أو أمواتًا.
هذا الموقف يزيد من اتساع الفجوة بين هؤلاء الجنرالات وبين رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الذي يعارض أي هدنة تسمح لحماس بالبقاء في الحكم.
ويرى هؤلاء أن وقف القتال في غزة سيؤدي إلى وقف المواجهات في الجبهة الشمالية والهجمات القادمة من اليمن والعراق. كما أن الجيش الإسرائيلي يحتاج إلى وقت للتعافي من تداعيات الحرب، واستعادة جاهزيته. المشهد السياسي والعسكري والاقتصادي والدولي يحتاج إلى إعادة بناء بعد أن تضرّر بشكل كبير، ويتطلب الأمر وقتًا طويلًا لترميم العلاقات الخارجية.
في الختام، تبدو إسرائيل في موقف صعب؛ بسبب الفشل في تحقيق الأهداف المعلنة للحرب، والخلافات الداخلية بين القيادة السياسية والعسكرية، إضافة إلى التكلفة البشرية والمادية الباهظة للحرب، وكلها عوامل تدفع نحو إعادة تقييم الموقف بحثًا عن مخرج.
ومع استمرار الوضع على ما هو عليه، يبقى السؤال مطروحًا: هل ستتمكن إسرائيل من إيجاد سبيل لتحقيق أهدافها المعلنة، أم أنها ستضطر في النهاية إلى قبول تسوية لا تلبّي طموحاتها الأولية؟
الزمن وتطوّر الأحداث على الأرض، كفيلان بالإجابة عن هذا السؤال.