فلسطين أون لاين

الفراق سبق "اللقاء المنتظر"

مجزرة "التفاح" تقتل حلم المغترب "علاء" بلم الشمل مع زوجته وطفلته

...
مجزرة "التفاح" تقتل حلم المغترب "علاء" بلم الشمل مع زوجته وطفلته
غزة/ يحيى اليعقوبي:

 

"طمني على نداء وسارة!؟".. لمدة نصف ساعة لم يرد علاء حمدي مطر (36 عامًا) على رسالة صديقة زوجته وصلته عبر تطبيقات مواقع التواصل الاجتماعي، معتقدًا أنها تريد فقط الاطمئنان على أوضاع زوجته التي تعيش بمنطقة التفاح بمدينة غزة والتي لا تتوفر بها شبكة الانترنت بصورة مستمرة.

سرق الانشغال اليومي مطر المغترب بدولة بلجيكا، عن فتح صندوق الرسائل والرد على تلك الرسالة التي انتهت بتسجيل صوتي تخنقه الدموع تسأل برجفة خوف "صحيح الخبر؟. صحيح الأسماء!؟".

بقلب يجتاحه القلق والتوتر، ظل لعدة دقائق يبحث عن إجابة على ذلك السؤال، تنقل في عملية بحثه عبر المواقع الإخبارية يوم 22 يونيو/ حزيران 2024 والتي ركزت في نقل فاجعة مجزرتين ارتكبهما جيش الاحتلال بمنطقتي "التفاح ومخيم الشاطئ" بمدينة غزة ارتقى خلالها عشرات الشهداء، أدرك حدوث مكروه لزوجته نداء التي تسكن بمنطقة التفاح وطفلتهم سارة.

موافقة بعد فوات الأوان!

بنظرات تصلبت من الصدمة، غرقت عيناه بسيل من الدموع لحظة مروره على قائمة أسماء الشهداء، والتي ضمت اسمي زوجته وطفلته في ذهول وصدمة، حاول تكذيب الأسماء، لغاية اتصاله في أحد أقربائه الذي أكد له نبأ الاستشهاد.

ارتجف قلبه وهو يستمع لأصعب نبأ تلقاه في حياته، وتهاوى كمدينة ضربها زلزال، فرضت الصدمة نفسها على ملامحه. نكس راية الحزن بعد أن كانت طبول الفرح تدق داخل قلبه قبل يومٍ بعد حصوله على الموافقة على إجراءات لم الشمل، وكان قد أخفى سعيه لإخراج زوجته وطفلته من قطاع غزة عنها ليجعلها مفاجأة.

في لحظة كان يريد الاستماع لنبرات الفرح من صوت زوجته وطفلته حينما يخبرها بالخبر السار، منتظرا تواجدها على الانترنت حتى يخبرها بذلك، تغيرت المفاجأة وتبدلت الملامح التي ارتدت ثوب الحزن وسبق الفراق لم الشمل، وقتل الاحتلال حلم علاء بلقاء زوجته وطفلته بعد شوق وانتظار وغربة صعبة عاشها بدونهن في بلجيكا محاولا تأسيس حياة ومستقبل لهن هناك.

"كنا أيام الحرب نتواصل عن طريق الاتصال في حال توفر، وكانوا في حالة من الخوف والرعب وقلة الطعام والشرب، أحيانا يستطيعون التواصل عبر الانترنت عن طريق بطاقات مدفوعة يسمونها في غزة "نت الشوارع" هذه كانت الوسيلة الوحيدة لتواصل علاء مطر مع زوجته كما تحدث لموقع "فلسطين أون لاين" مدليًا بشهادته على المجزرة التي قتلت أحلام عشرات الشهداء.

ودمر الاحتلال مربعات سكنية بمنطقتي التفاح شرق مدينة غزة ومخيم الشاطئ غربها في وقت متزامن  ظهر 22 يونيو، مما أدى لاستشهاد العشرات وإصابة المئات في المجزرتين المروعتين.

الرعب يكوي قلب طفلته

يقف مطر على بقايا آخر الذكريات وجمرات الحزن تكوي قلبه عن آخر حديث مع زوجته وطفلته، يقول "انهارت طفلتي سارة بسبب قصف الاحتلال لروضتها، يومها أجريت اتصالا مرئيًا معها وأريتها بالكاميرا أن بجوار منزلي ببلجيكا يوجد مدرسة أطفال، وشاهدت الأطفال بداخلها وكانت سعيدة لأنها ستأتي عندي قريبا وستلتحق بالمدرسة".

"فش عندك قصف صح!؟" كانت الإجابة على السؤال، أكثر ما يشغل قلب الطفلة التي أرهقها أصوات والصواريخ والقصف والأحزمة النارية، فانتزعت إجابة والدها ابتسامة فرح من وجهها "حتيجي على حضني أنا، أكتر مكان آمن بالدنيا".

 جعلت الإجابة الطفلة تحتضن والدتها وتضم الهاتف لحضنها وقالت "بحبكم" كأنها تضم والدها تنتظر بشوق ولهفة عناقهم الثلاثي بعيدا عن مواقع التواصل، التي لا "تعوض لحظة واحدة من اللقاء المباشر" هذا ما علمته الغربة لعلاء.

تطرق طفلته أبواب الذاكرة "كانت ترسل لي تسجيلات صوتية، بأنها تحبني وتشتاق لي، تشتهي أكل اللحوم والدجاج المنقطع عن مدينة غزة وشمالها منذ بداية الحرب، وآخر مرة أكلوها قبل شهر من الاستشهاد وطلبت شرائها مهما كان ثمنها".

في المكالمات الأخيرة بينهما، نقلت إليه زوجته "نداء" أنها رأت في المنام أنها استشهدت، لم يقبل زوجها فكرة رحيلها عنه حتى لو كان الأمر "مجرد حديث أو حلم أو مزاح" كما كان يعتقد، قاطع حديثها بنبرة عتاب "بكفي مزح لا تحكي هالكلام. حتيجوا بلجيكا وأفسحكم وأعوضكم عن أيام الحرب".

بذل مطر محاولات عديدة لإخراج زوجته من غزة، يوضح "أخفيت عنها تلك الإجراءات فأحببت أن تكون مفاجأة لها، لأن لم الشمل كان متوقفا في بلجيكا لأصحاب الإقامات خاصة لمن ليس لهم ملفات في القدس، وجاء الرد بالموافقة في 21 يونيو/ حزيران، وفي اليوم التالي تلقيت نبأ استشهادهم".

دفُنت طفلته سارة في حضن جدتها التي استشهدت بالمجزرة والتي كانت تحبها فجمعهم قبر واحد، أما زوجته نداء التي تعلقت بوالدها، فاستشهدت وحتى اللحظة بقي جثمانيهما عالقين تحت الأنقاض، "هذا الشيء مرهق نفسيا إضافة لخبر استشهادهم".

يتدفق الحزن من قلبه "كنت أحلم دائما أن أستقبل زوجتي ونجتمع معًا بعد طول غياب لتخرج من جحيم الحرب والمعاناة والمأساة كما كانت تتمنى، وأستقبل طفلتي سارة وأراها بكل ركن في البيت والشارع في بلجيكا والمدرسة، وأن تكبر أمام عيني وأحمها من كل خوف، ولكن الحرب مجنونة لا تفرق بين طفل وامرأة وشيخ".

مطر الذي كتب في ملف تعريفه على فيسبوك " غزة يا وطني وموطني .. من لي بغيرك عشقا فأعشقه ولمن أتغنى .. ومن لي بغيرك شوقا وأشتاق له" ارتبط بحب وطنه ودفع ثمن هذا الارتباط وعمله الصحفي في تغطية العدوان من جسده الذي كثرت فيه الإصابات، وانتهى بفقد زوجته وطفلته الوحيدة.

وعلى مدار 13 عاما تنقل فيها مطر بين المشافي بداية في غزة بعد إصابته في شظية بالرأس خلال العدوان الإسرائيلي على غزة عام 2008 أثناء ممارسته عمله الصحفي، ثم مصر، وصولا إلى تركيا حتى ألمانيا، وليس انتهاء في بلجيكا، أجرى خلال تلك السنوات أكثر من 15 جراحية في الرأس والعيون، والمثانة، والحالب، والبروستات، ولا زال يخضع لبرامج علاجية مكثفة.

وتزوج مطر قبل عشر سنوات ورزق بطفلته الوحيدة سارة التي لم يرها منذ أربع سنوات ونصف، وكان يمني النفسي بعناق لطفلته وزوجته بعد طول غياب وغربة، فختم منشور رثائه لطفلته وزوجته على صفحته على فيسبوك: "لم تسعفني الظروف أن أخبركم بموافقة القنصلية البلجيكية على لم شملكم. كان نفسي بحضن يابا".