ثلاث سنوات من الحصار المتلاحق هي عمر زواجها من عمر، لا تدَّعي أنه هو السبب في هذا الحصار، ولا تدري تمامًا أحماتها أم هي أم المجتمع أم أنها الأقدار هي السبب في حصارها. وحتى لا أطيل عليكم سأوضح القضية أكثر، فهي لم تحمل حتى الآن، وفي المجتمعات الشرقية يكون الحمل وإنجاب الأبناء الذكور منهم خاصة من ضرورات متابعة الحياة الزوجية بهدوء، وإلا فإنها ستغدو في مهب الريح، فكما تقول أمها إن الأبناء وتد تغرسه الزوجة في أسرة الزوج تمكن نفسها من البقاء بينهم، وماذا تفعل هي التي لم تحمل حتى الآن، ولا يمر شهر دون أن تسألها حماتها، والجارات والقريبات حتى أمها: "ماحوشتيش؟!".
وما أبغض هذا السؤال على نفسها!، فلو كانت قد "حوشت" ما كانت ستخفي الأمر، فلماذا الإلحاح بهذا السؤال البغيض؟!، وعندما تقول: "لا" تنهار عليها الاقتراحات والوصفات الشعبية التي تكرهها كره يوسف لإبقائه في الجب وحيدًا شريدًا جائعًا: هل ذهبت إلى الطبيب (...) في مدينة (...)؟، تقول عنه أم أحمد أنه عالج كنتها وحملت مباشرة، ألم تذهبي إلى الحجة أم سالم "لِتَطْبُق ظهرك"؟، هي تستعمل "كؤوس الهواء" وبمشيئة الله تحمل المرأة في الشهر نفسه بعد "طَبْقِة الظهر"، ألا تشربين خلطة العسل مع الحبة السوداء على الريق؟، هل جربت زيت الزيتون؟، وغيرها من الاقتراحات التي تحاصرها في كل مكان، إلى درجة أصبحت معها الحياة كلها وكوكب الأرض بل المجرة تدور في فلك الحمل والإنجاب.
لم تعد تطيق العيش بهذه الوتيرة، فلابد من حل، وما من خيارات أمامها إلا اثنين: فإما أن تحمل، وهذا ليس بيدها، وإما أن تنفصل عن زوجها، وهذا خيار صعب جدًّا لا ترغب به في هذا الوقت، على الأقل، المعضلة الكبيرة أنها راجعت أطباء عدة، وأكدوا لها أنه لا يوجد لديها مشكلة يمكنهم علاجها، ما عليها إلا الصبر، وسيحدث الحمل وتصبح أمًّا، ولكن هل يدرك المجتمع من حولها قاعدة "الصبر" هذه التي تحدث عنها الأطباء.
نصحتها صديقة لها بأن تذهب إلى الشيخ "أبي جبل" في قرية (...)؛ فهو مشهود له بعلاج الحالات التي تشبه حالتها، وأوصتها أن تبقي الأمر سرًّا، وأن تحضر "ما فيه النصيب" لتعطيه إياه، فهو لا يطلب مبلغًا محددًا، إنما "ما بطلع من نفسِك".
درست الموضوع بروية في نفسها، وشرعت تنفذ سرًّا ما عزمت عليه، كان البيت في نهاية شارع غير معبد، تحيط به أشجار مرتفعة، بابه خشبي قديم، طرقت الباب، فناداها صوت من الداخل آمرًا بالدخول، البيت معتم، رائحة رطوبة تمتزج بروائح أخرى غريبة طرقت أنفها بعنف.
"أنت متعبة جدًّا يا ابنتي، أعلم ذلك، ولكن لا تقلقي، ستكونين حاملًا قبل أن يمر عليك شهران في العلاج عندي، ولكني لدي شرط"، كان صوته عميقًا رصينًا، كأنه يخرج من أعماق التاريخ، شعرت براحة لم تشعر مثلها من قبل، ودون أن تسمع المزيد قالت: "أنا موافقة"، قال: "فقط أتمنى لو يبقى هذا الأمر سرًّا، فأنا لا أطلب الشهرة، فقط أحب مساعدة المحتاجين أمثالك".
طفق يسألها عن أدق تفاصيل قضيتها العالقة، وكذلك تفاصيل طمثها ومواعيده بدقة، أجرى عمليات حسابية على ورقة، ثم حدد لها موعدًا دقيقًا للحضور، وفي الموعد المحدد جلست على كرسي خشبي أمام طاولة الشيخ، الذي كان يشعل عليها نارًا في موقد صغير، يتجه دخانها الرمادي إلى ناحيتها، ويتمتم بكلام لم تفهمه، أخذت تشعر بخدر يلف رأسها ووعيها، وأخذت عيناها توصدان أبوابهما غصبًا عنها.
لم تعلم ماذا أو كيف أو لماذا، ولكنها وجدتها تستلقي على أريكة رثة في الغرفة نفسها، سألها مستفسرًا: "أأنت بخير يا ابنتي؟، يبدو أنك لم تحتملي رائحة الدخان، تستطيعين النهوض الآن"، قالت بخمول: "الموعد القادم يا شيخ؟"، أجابها: "بعد تسعة أشهر"، وغاب فجأة كأنه شبح، نادته، ولكن لا حياة لمن تنادي، وضعت "ما فيه النصيب" على الطاولة، وغادرت وهي لا تفهم شيئًا.
ما إن مضى شهر على ذلك حتى كانت أمارات الحمل تظهر عليها، كتمت أمرها، ولم تسع الدنيا حماتها، ولا والدتها، وحل الفرح الديار، وبعد تسعة أشهر جاء الطفل مولودًا ذكرًا، وعندما رأته صُعقت، ودارت الدنيا بها عندما لاحظت الشبه الكبير بينه وبين ذلك المشعوذ.