يبدي الإسرائيليون اهتمامًا لافتًا بالذكرى السنوية الثلاثين لتوقيع اتفاق أوسلو، حتى أنهم أفردوا لهذه المناسبة ملفات صحفية وتلفزيونية ووثائقية، في محاولة لتتبع آثاره، ونتائجه على أوضاعهم السياسية والأمنية، وهو جهد كان حَريًّا بالفلسطينيين أن يبذلوه أيضًا، لكنهم لم يفعلوا، باستثناء محاولات متناثرة هنا وهناك.
من المقولات التي رافقت كثيرًا من الإسرائيليين وهم يحيون هذه الذكرى أن اتفاق أوسلو مات واختفى عمليًا، مع أن ما تشهده الأراضي الفلسطينية المحتلة، ولا سيما الضفة الغربية من وقائع على الأرض تؤكد أن ما زال باقٍ ويتمدّد، خاصة بالنظر إلى الحواجز العسكرية، وجدار الفصل العنصري، ونظام تصاريح العمل في الداخل المحتل الذي أعطى الاحتلال سلاحًا بيروقراطيًا قويًا ضد الفلسطينيين.
في الوقت ذاته، فإن الإسرائيليين ذاتهم يعتقدون جازمين أنَّ ثلاثين عامًا من أوسلو لم تمنحهم الأمن، بل السيطرة على الفلسطينيين، بالتقسيم الجغرافي الذي ظهر في الاتفاق لمناطق "أ، ب، ج" التي أوجدت عوائق ومعيقات أمام أصحاب الأرض الأصليين، في حين منحت المستوطنين الدخلاء حدودًا شفافة يتجاوزونها متى أرادوا ذلك.
لقد ساهم أوسلو في شرعنة الانتهاك الإنساني واليومي للعديد من حقوق الفلسطينيين، ولا سيما الحق في المرور وحرية التنقل، بزعم أن تقييدها ضرورة أمنية منحت الاحتلال شرعنة أحقية المستوطنين في التنقل بين الأراضي الفلسطينية استمرارًا لما ذكره "بن غفير" مؤخرًا عن أحقيّته على الفلسطينيين في هذا التنقل على طرق الضفة الغربية.
اقرأ أيضًا: أوسلو عقب 30 عامًا من الحصاد المر.. ماذا بعد؟
اقرأ أيضًا: الموبقات السبع لاتفاق أوسلو
إن الواقع الكارثي الذي أنتجه اتفاق أوسلو منح كل مستوطنة يهودية جديدة يتم إنشاؤها وليس فقط في الضفة الغربية، بل ضمن مشاريع تهويد النقب والجليل، الحق بإقامة سياج وحواجز عند مداخلها، مما عبّد الطريق لإقامة جدار الفصل العنصري الذي تحول مع مرور الوقت إلى مشروع يهدف لإقامة حدود سياسية، وليس ضرورة أمنية أصبحت الكلمة السحرية لكل إجراء من شأنه خنق الفلسطينيين، والتضييق عليهم.
اليوم، وبعد هذه العقود الثلاثة، بات واضحًا أن اتفاق أوسلو منح الاحتلال فرصة النجاح بإقامة "دولة واحدة"، تسيطر على معظم الأراضي بين النهر والبحر، لكنها لا توفر الأمن والهدوء لمن يعيشون فيها، بل تفرض سطوتها عليهم عبر مجموعة من أدوات السيطرة الاستعمارية التي تأتي استكمالًا لإرث الانتداب البريطاني بمنع حركة "السكان الأصليين" بقوانين الطوارئ، وخلق مناطق "نظيفة" من الفلسطينيين حتى يمكن استيطانهم، والاستمرار في تبرير هذا النظام العنصري الذي يزداد توحّشًا.
ومع تصاعد عمليات المقاومة، نشأ تصور لدى الاحتلال مفاده أن حركة كل الفلسطينيين خطيرة، وأن كل فلسطيني لديه احتمال أن يكون مقاومًا مسلحًا، وأن مجرد وجودهم يمثل تهديدًا ديموغرافيًّا، وكلها ذرائع يقدمها المحتلون لشرعنة الضم والاستيلاء تحت رعاية حكومة المستوطنين المتطرفين.