كان أوّل لقاء جمعني بالشيخ الراحل جميل حمامي في آب العام الماضي، وفي مناسبة اجتماعيّة تحديدًا، إذ لم يكن يتأخّر الشيخ كما عرفت يومها عن أداء واجبه تجاه أبناء مدينته في القدس، سواء في تصدّر وفود إصلاح ذات البين وجاهات مراسيم الزواج أو تقدّم مواكب الجنائز، بوصفه وجيهًا ووجهًا من وجوه المدينة. وممّا أذكره في ذلك اللقاء الّذي جمعنا في جاهة طلب يد عروس مقدسيّة لأحد الأصدقاء من فلسطينيّي الداخل، وقوف الشيخ حمامي المرحوم ممثّلًا ومفوّهًا عن عائلة العروس مرحبًا بالجاهة الكريمة، بصوت كريم بدت بحتة واضحة في مسامع الحاضرين، فعرفت وقتها بأنّه الشيخ جميل حمامي أحد أعلام ومرابطي مدينة القدس، ومؤسّس مشروع مدارس الإيمان في المدينة، كما دلّت بحّة صوته على أنّ الشيخ لم يعد بكامل عافيته كما كان في السابق.
بعد أيّام على مرور ذلك اللقاء، تواصلت مع الشيخ الراحل، إذ عرفت بأنّه من مؤسّسي مدارس الإيمان الّتي ظلّ يشغل منصب مديرها العامّ وقتها، خصوصًا في ظلّ قيام بلديّة الاحتلال بسحب تراخيص خمس من مدارس الإيمان قبيل افتتاح العام الدراسيّ، بذريعة أنّ المدارس تقدّم في منهاجها التعليميّ موادّ تعليميّة محرّضة على الاحتلال وجيشه. ممّا شجّعني على الاتّصال به، واتّفقنا على إعداد تقرير متعلّق بصراع مدارس الإيمان مع بلديّة احتلال القدس، من أجل نشره على موقعنا عرب 48. ورغم تحفّظه بالعموم على إجراء مقابلات أو الإدلاء بتصريحات متعلّقة بصراع مشروع الإيمان مع بلديّة الاحتلال، حيث كانت إدارة المدارس تخوض مسارًا قضائيًّا ضدّ قرار البلديّة وقتها، إلّا أنّ الشيخ أبدى ترحيبًا استثنائيًّا بزيارتنا له، ووافق على إعداد التقرير بشرط تجنّب التقرير ذكر النقل عن لسان حمامي ما أمكن، فعرفت بأنّه مستهدف وملاحق بقدر ما كانت مدارسه مستهدفة وملاحقة.
في صباح يوم من مطلع أيلول، ومع الأيّام الأولى من افتتاح العام الدراسيّ الماضي 2023/2022 التقينا بالشيخ جميل حمامي في مكتبه الإداريّ في أحد مباني مدارس الإيمان في بيت حنينا على الطريق المؤدّي إلى مدينة رام اللّه. حين دخلنا إلى مكتبه كان ما يزال الطاقم الإداريّ متحلّقًا حول طاولة المدير الشيخ، إذ كانت مدارس الإيمان تمرّ بظرف استثنائيّ بعد سحب بعض كتب المنهاج الوطنيّ المقرّر من قبل البلديّة، وقد ترك تلاميذ الإيمان بلا كتب وقتها، وقد بدا الإرباك واضحًا على وجوه الشيخ وطاقم الإدارة يومها.
استقبلنا الشيخ جميل بحفاوة يملؤها حسّ التواضع والأدب، ومع أنّ ابتسامته غير المتكلّفة لم تكن تفارق محيّاه على مدار لقائنا به، إلّا أنّ التعب والإنهاك كانا قد نالا من ملامح وجهه وطريقة جلوسه خلف مكتبه. قدّم لنا الشاي، ثمّ افتتح حديثه عن أواصر العلاقة الّتي تربط فلسطينيّي الداخل المحتلّ مع القدس وأهلها عبر قنوات مختلفة، ليتبيّن لنا حجم معرفته بظروف مجتمع الداخل الفلسطينيّ على أكثر من مستوى، خصوصًا وأنّ بعضًا من طاقم إدارة الإيمان كانوا من أبناء الداخل. كما بدا واضحًا لنا، بأنّ الشيخ الراحل جميل حمامي لم يكن مجرّد مدير عامّ لمدارس في القطاع الأهليّ - المقدسيّ، بقدر ما كان شخصيّة عموميّة مهمومة في الشأن العامّ المقدسيّ المتّصل بصراع مدينته مع الاحتلال في كل مناحي الحياة.
اقرأ أيضًا: وفاة الشيخ جميل حمامي من القدس.. تعرف عليه
اقرأ أيضًا: حماس تنعى الشيخ جميل حمامي
مشروع الإيمان
كان الشيخ جميل حمامي، مؤمنًا كلّ الإيمان بمشروعه مدارس الإيمان، من باب تيقّظه لضرورة حماية حقل التربية والتعليم في مواجهة أسرلته في القدس. خصوصًا بعد أن صار مسار أسرلة مناهج التعليم في المدينة يسير على قدم وساق بإشراف بلديّة الاحتلال في العقدين الأخيرين. أمّا عن مشروع مدارس الإيمان الّذي بدأ بحسب الشيخ الراحل على شكل رياض للأطفال في سنة 1984، بمبادرة تربويّة – اجتماعيّة أهليّة قام عليها مجموعة من شخصيّات مدينة القدس في حينه، وبدعم ماليّ عربيّ وإسلاميّ. ثمّ تطوّر مشروع الرياض إلى مدرسة لمرحلة التعليم التأسيسيّ (الابتدائيّ)، وهكذا إلى أن صارت المدرسة مدارس اتّسعت دائرتها حتّى التعليم الثانويّ، لتصبح مدارس الإيمان من بين أهمّ مدارس القطاع الأهليّ – الوطنيّ في المدينة، الّتي ظلّت تحمل رسالة تعليميّة مشبوكة بالبعدين الوطنيّ والإسلاميّ معًا، وبما يصبّ في مصلحة تمتين قطاع التعليم وتمكين الأجيال المقدسيّة تربويًّا وتعليميًّا، في مواجهة الاحتلال وسياساته في المدينة.
لم يكن يفصل الراحل جميل حمامي مسار التعليم في القدس عن احتلالها، وعن القضيّة الوطنيّة عمومًا. لذا، كان يجدل في حديثه معنا واقع مدينته المحتلّة في كل نواحيها ومناحيها السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة وحتّى الدينيّة عبر نافذة التربية والتعليم. كما بدا شفّافًا وموضوعيًّا لأبعد الحدود عند حديثه عن بدء اختراق بلديّة الاحتلال لقطاع التعليم الأهليّ – المقدسيّ بما فيه مدارس الإيمان نفسها، عبر الدعم الماليّ غير المشروط من قبل البلديّة في البداية، وتحديدًا في تسعينيّات القرن الماضي، ثمّ إخضاع قطاع التعليم شيئًا فشيئًا لمقصّ رقابة البلديّة إلى أن صارت رقبته في قبضة البلديّة وإملاءاتها في السنوات الأخيرة.
من سيرته الذاتيّة
لم يحدّثنا الشيخ الراحل في ذلك اللقاء عن نفسه، ولكنّ حديثه عن دوره ومن معه من مؤسّسي مشروع الإيمان في القدس، تخلّله إشارات عن ملاحقات له بصورة شخصيّة لاعتبارات سياسيّة ووطنيّة، من قبل سلطات أمن الاحتلال. خصوصًا وأنّ الراحل عاش حياة عريضة حافّة بالنشاط الدعويّ والتربويّ – الاجتماعيّ والسياسيّ كذلك، منذ أن بدأ في شبابه داعيًا وخطيبًا في مساجد القدس وضواحيها، وعلى رأسها في المسجد الأقصى المبارك، ثمّ دوره في تأسيس "دار الحديث الشريف" و"جمعيّة لجنة العلوم والثقافة الإسلاميّة" و"مدارس الإيمان"، وهو عضو في الهيئة الإسلاميّة العليا في مدينة القدس.
في شبابه التحق المرحوم جميل حمامي بصفوف الإخوان المسلمين، وكان من بين مؤسّسي حركة حماس الإسلاميّة في القدس، ومن أبرز قياداتها في المدينة، وقد عرضه ذلك للملاحقة والاستهداف الدائمين، إذ اعتقلته سلطات جيش وأمن الاحتلال عدّة مرّات، ما يفسّر لنا وضع بلديّة الاحتلال مدارس الإيمان الّتي أشرف حمامي على تأسيسها تحت طائل الشكّ والاستفهام طوال العقود الثلاثة الماضية.
توفّي الشيخ جميل حمامي الأحد، عن عمر ناهز الـ 71 عامًا، بعد صراع مع المرض لم يمهله طويلًا، وهو من مواليد الأردنّ في عام 1952. انتقل مع عائلته إلى القدس في أواخر خمسينيّات القرن الماضي، وفيها ترعرع وتعلّم وشبّ عن طوقه محبًّا لمدينته ومنتميًا لقضيّة وطنه وشعبه. تعلّم في كلّيّة الشريعة في جامعة الأزهر في مصر، وحصل على شهادة منها، ثمّ التحق بجامعة عين شمس للحصول على درجة الماجستير منها، غير أنّ ظروفًا حالت دون إمكانيّة إتمامه ذلك، ثمّ التحق بجامعة القدس، ومنها حصل على الشهادة العليا.
رحل الشيخ جميل حمامي، وما تزال نبرة صوته الدافئة بعد ذلك اللقاء به مسترخية في ذاكرتنا، رغم ما كان يعتصر صدره وحنجرته من ألم وأمل معًا، على وفي مسيرة التربية والتعليم الوطنيّين في مدينته الّتي أحبّ، القدس الشريف. فإلى جنان الخلد والرحمة يا شيخ جميل الجميل.