في صباح يوم إضراب القرى والبلدات العربية في الداخل، الثلاثاء الماضي، الذي وافق 5/9/2023، احتجاجًا على غلو وتغوّل الجريمة في مجتمعنا العربي، استيقظنا مجددًا على خبر جريمة مقتل يوسف حسين شلبي من قرية إكسال على الطريق الواصل ما بين قريته ومدينة الناصرة، وقد أُصيب شخصان آخران معه، في حين كان ثلاثتهم متوجهين للعمل.
كان مشهد مركبة الضحية ذات المحرك الرباعي معترضة طريق مسرح الجريمة، مُشرعة أبوابها، مُحطما زجاج نوافذها، ومخضبةً بدماءِ رُكّابها، في حين عُلَب حفظ طعام العمال مكشوفة ومبعثرة فيها، مشهدًا يبعث على الأسى والغضب، خصوصًا وأن المغدور شلبي بحسب ما أجمعت عليه روايات ذويه ومعارفه من أبناء قريته، لم يكن يمتّ للجريمة وعالمها بأي صِلة.
أن يُصبح مجتمعنا على جريمة في صبيحة يوم إضرابه واحتجاجه عليها، أمرٌ فيه ما يبعث على العجز واليأس معًا، بقطع النظر عن سؤال مدى فاعلية الإضراب في الأيام القليلة التي سبقت الإضراب، وتحديدًا في مساء يوم الجمعة الثاني من أيلول/ سبتمبر، راح في قرية كفر قرع ضحيتان في جريمة إطلاق نار، أحدهما الفتى محمد مصطفى عربيد الذي لم يبلغ عمر الرابعة عشرة بعد، وتلاهُما مقتل إمام أحد مساجد قرية كفر قرع، هو الشيخ سامي عبد اللطيف، ما دفع إلى اتخاذ قرار الإضراب العام الذي لم تأبه له الجريمة في يومه، وفي اليوم التالي على مرور الإضراب كانت قرية الفريديس على موعدٍ مع قتل عمر مراعنة، وهو أيضًا فتى لم يتجاوز سن السابعة عشرة. ثم كانت جريمة في مدينة رهط يوم الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، حيث راحت ضحيتها امرأة في الثلاثينات من عمرها على يد زوجها، الذي حاول بدوره قتل نفسه هو الآخر، إلى آخر جريمة قتل.
بالتالي، تسير الجريمة وتستشري بوتيرتها اليومية من قبل يوم الإضراب وبعده، للحد الذي صارت فيه مواقع الإعلام تؤرشف للجريمة بصورة شهرية عن يومياتها، "عشر ضحايا في عشرة أيام منذ مطلع شهر أيلول"، وقد وصل عدد ضحايا جرائم القتل في غضون ثمانية أشهر منذ مطلع هذا العام إلى 166 ضحية، منهم 10 نساء، مما بات يُنبئ حرفيًا بشكل ومصير وجودنا الطبيعي في هذه البلاد، كما اتسعت مساحة فاعلية الجريمة مؤخرًا، إذ باتت حاضرًا مركزيًا في سياق انتخابات السلطات المحلية المُقبلين عليها في نهاية تشرين الأول/ أكتوبر القادم.
اقرأ أيضًا: المعركة ضد الفلسطينيين بمن فيهم فلسطينيو الـ48
اقرأ أيضًا: بعد 17 عامًا: التعطش للدماء من السماء
صار القتل شبه يومي تقريبًا، في حين فعل محاولة القتل هو اليومي بالتأكيد، حتى ذلك اليوم الذي يمر بنا بلا جريمة وضحايا، وبلا إطلاق نار بات استثنائيًا في وعينا اليومي، فمن منّا يمكنه تذكر ذلك اليوم الذي مرَّ دون محاولة أحدهم قتل آخر منذ مطلع عامنا هذا؟ ما يعني أن الجريمة صارت ثابتة في رزنامة وجود مجتمعنا العربي – اليومي.
وليست الجريمة متطابقة مع ضحاياها كما نظن يوميًا، بمعنى ليسوا قتلاها من أبنائها أو ما يُطلق عليه "ضحايا تصفية الحسابات بين منظمات الجريمة" بالضرورة، فما الذي اقترفه الفتى محمد مصطفى عربيد ابن كفر قرع ليُقتل وهو في أيامه الأولى من عامه الدراسي في الصف التاسع الإعدادي؟ كذلك الشيخ المغدور سامي عبد اللطيف إمام المسجد المشهود له بالصلاح والإصلاح في جريمة لم يستحضرني عند سماعي بخبرها غير قصيدة "من قتل الإمام؟" للشاعر السوري الراحل نزار قباني، وإن كان سياق قتل إمام شاعر القصيدة مختلفًا.
أطفال ونساء وشيوخ وعمال وموظفون وقياديون، كلهم ضحايا في رزنامة القتل اليومي، ما يعني أن كلًا منّا هو ضحية محتملة، ومما يعني أيضا أننا أمام جريمة بلا ملامح تمكنا الاستدلال عبرها إلى دافع فعل القتل، وشكل الضحايا والفاعلين.
إنما الملمح الواضح هو في هذا الكم من القتل اليومي الذي يستهدف الشباب بأيدي الشباب، ليس الشباب بوصفه فئة عمرية، بل بوصفه مادة وجود أو مادة للزمن.
إن القول بتقاعس الشرطة، وتواطؤ أجهزة أمن الدولة بمكافحة الجريمة، وتعقب ومحاسبة المجرمين هو حقيقة، غير أنها حقيقة لم تعد تُجدي نفعًا للحد الذي صار يعتقد فيه البعض منّا بأن الشرطة "غير قادرة فعلًا على إيقاف شلال دماء الجريمة في مجتمعنا"، نعرف أن الجهة التي تملك أدوات منع الجريمة لا إرادة لديها بمنعها، لأننا لسنا في حسابات تلك الجهة إلا في جرْد حساب موتنا كعرب، وهذا ليس جديدًا إذ بات يدركه كل من أطفالنا وعجائِزنا، غير أن السؤال في: ما هو الذي نملكه نحن كمجتمع عربي من إرادة أولا قبل الأدوات من أجل الضغط على من يملك أدوات منع الجريمة بمنعها؟ ونقصد بذلك الدولة وأجهزتها.
يحاول الناس في مجتمعنا العربي، عيش "حياة يومية طبيعية" في رزنامة يومياتهم الاجتماعية، بالرغم من إدراكهم بأن حياتهم لم تعد طبيعية البتة، وأن تحولات اجتماعية تُنذر بمستقبلٍ بلا مصير، في مجهولية باتت تهدّد وجودنا، أو شكل وجودنا على الأقل في هذه البلاد، ليس لأنها الجريمة، فهذه الأخيرة صحيح أنها هي التعبير الأبرز على يافطة المرحلة التي نمر بها. غير أن السياق الاجتماعي وكذلك السياسي الذي صارت عليه رزنامة يومياتنا من ضغوط، وعطب، واحتقان حتى في أكثر اللحظات التي يُفترض بها أن تكون سعادة وسِعة مثل الأعراس، فقد باتت مصدرًا لتكثيف الضغوط والإرباك، لا بل إن بعض مناسباتنا الاجتماعية مولِّدة للعنف وتعابيره.