في صباح يوم الأربعاء الموافق 9 من آب/ أغسطس سنة 2006، نفذ "سلاح الجو" في جيّش الاحتلال هجوما بثلاثة صواريخ موجهة من طائرة أباتشي استهدفت بيتا في مخيم جنين في عملية راح ضحيتها اثنين من مجاهدي سرايا القدس التابعة للجهاد الإسلامي، هما أمجد عجمي (20 عامًا) ومحمد عتيق (28 عامًا).
كان ذلك آخر استهداف يقوم به جيش الاحتلال في الضفة الغربية عبر استخدام سلاح الجو إلى حين بعد ظهر الأربعاء فقد نفذ سلاح جو جيش الاحتلال الإسرائيلي هجومًا بصاروخ عبر طائرة مسيّرة هذه المرة من نوع "زيك" على مركبة فلسطينية قرب حاجز الجلمة، في عملية أسفرت عن استشهاد ثلاثة فلسطينيين.
ادعى جيش الاحتلال بأنه "أحبط" خلية فدائية كانت تحاول تنفيذ عملية ضد مواقع إسرائيلية. سبعة عشر عامًا، وباختصار، هي مرحلة حكم سلطة ما بعد عرفات والقضاء على كل أشكال النضال المسلح في الضفة الغربية. وبالتالي العودة لاستخدام سلاح الجو غير المأهول (طائرة بدون طيّار) هذه المرة، لا يُخيلنا إلى الحديث فقط عن أفق تعطّش (إسرائيل) لاستخدام تقنية القتل من السماء، بل في تصميم تلك التقنية. إذ لسلاح الجو الإسرائيلي دور استعماري - ريادي في صنع وابتكار الطيران غير المأهول. وأشهرها قذارةً وفتكًا كانت البريديتور.
تصميم الافتراس
في كتابها بعنوان "حرب الطائرات بدون طيّار: القتل بالتحكم عن بعد". أشارت ميديا بنجامن إلى دور (إسرائيل) السبّاق في صنع أكثر الطائرات بدون طيّار شهرة، البريديتور، والتي تعني "المفترسة". وذلك على يد مهندس الطيران الإسرائيلي أبراهام كاريم الذي عمل على تصميمها من مرآبه في جنوب كاليفورنيا في الثمانينيات من القرن الماضي. كان كاريم قد بدأ على تطوير ما دعاهُ "الآلباتروس" أي الطائرة غير المأهولة في سبعينيات القرن العشرين لحساب متعهد إسرائيلي قبل أن ينتقل إلى جنوب كاليفورنيا لتطوير شركته الخاصة هناك عام 1980.
بعد عام، وبمنحة من وكالة مشروعات البحث المتقدمة "دي أي آر بي أي" التابعة للجيش الأمريكي، و"السي آي إيه"، كشف كاريم عن طائرة الآلباتروس التي يمكن لها أن تبقى في الجو لما يصل إلى 56 ساعة. ومن ثم عن نسخة جديدة تحوي حاسوبًا فاعلًا للتحكم في الطيران، تُدعى النات 750، والتي حلّقت لأول مرة في سنة 1994 في سماء البوسنة تحديدًا، بتوجيه من طاقم تابع لسي آي أي لم يكن على متنها، بل أطلقها من مدرج مهجور في ألبانيا المجاورة.
وهكذا ولدت طائرة البريديتور، التي كانت ما تزال طائرة غير مأهولة غرضها التجسس والمراقبة فقط في حينه. ولم يخرج أحدهم بفكرة تزويدها بالصواريخ وتحويلها من طائرة للتجسس إلى القتل، إلا بعد شن حملة الناتو على كوسوفو في عام 1999.
لجيش الاحتلال الإسرائيلي تاريخ طويل في استخدام الطائرات بدون طيّار لجمع المعلومات الاستخبارية، التمويه، وعمليات القتل المستهدف. تاريخ يعود في استخدامه للطيران غير المأهول إلى حقبة احتلال سيناء في سبعينيات القرن الماضي. وقد عمل جيش الاحتلال على تطويرها مع حرب لبنان عام 1982 ولاحقًا في مواجهة الانتفاضة الفلسطينية الأولى.
بعد إعجابه باستخدام (إسرائيل) للمركبات الجوية غير المأهولة أثناء غزوها لبنان سنة 1982، اتخذ وزير البحرية الأمريكي جون ليمان في حينه قرارًا بضم القدرات الجوية الإسرائيلية لسلاح البحرية الأمريكية. وكانت أول طائرة غير مأهولة تم شراؤها من (إسرائيل) هي "البايونير" وذلك لجمع المعلومات الاستخبارية أثناء عملية "عاصفة الصحراء".
امتياز سمعة القتل
في حديث مع رئيس شركة "رافائيل" للأنظمة الحربية المتقدمة في (إسرائيل) توقع غيورا كاتس قبل سنوات أن يصبح ثلث المعدات العسكرية الإسرائيلية بحلول عام 2025 سلاحًا غير مأهول. وهو ما اعتبره كاتس "انتقال فعلي إلى عصر الروبوتات". إن الشركات الإسرائيلية المصنعة للطائرات بدون طيّار، والتي يبرز منها بالقدر الأكبر "أنظمة دفاع الطيران"، "أنظمة إلبيت"، و"صناعات طيران إسرائيل" (آي أى آي) لا تقوم كنظيراتها في أميركا بصناعة طائراتها غير المأهولة للسوق المحلية فحسب.
بفضل اقتصادها الحربي، وتاريخها الدموي، فضلًا عن استخدامها المبكر للسلاح الجوي غير المأهول، مُنحت (إسرائيل) ميزة تنافسية عالمية في ما يتعلق بصادراتها من سلاح الجو غير المأهول، حيث تتم الدعاية لما "أُثبتت فاعليته قتاليًّا" من التقنية الإسرائيلية، من قبل الجيش الاحتلال، الإعلام، وشركات تطوير الأسلحة، ففي السنوات الأخيرة الماضية، جرى الترويج دعائيًا لطائرة "أنظمة إلبيت" هرميز 450 والتي بيعت لعشر دول على الأقل باعتبارها فاعلة من الناحية العملياتية في جيش الاحتلال الإسرائيلي، إذ يتم التأكيد على تلك الحقيقة العدوانية بواسطة ختم أصفر بارز يحوي عبارة "مثبت الفاعلية قتاليًا" في مقدمة كتيّبها الدعائي.
في عام 2011، تملّكت روسيا الحماسة للحصول على طائرة بدون طيّار إسرائيلية ضخمة مسلحة تُدعى "الهيرون"، التي يمكن لها أن تبقى في الجو ليوم كامل تقريبا قبل الحاجة إلى إعادة تزويدها بالوقود، وذلك بعد اتفاق روسي وُقع مع الحكومة الإسرائيلية في عام 2009 يقضي ببيع ما قيمته 50 مليون دولار من الطائرات بدون طيّار إلى روسيا، وفي العام نفسه، أي 2011 ، كانت (إسرائيل) بحسب جاك كيميا كبير المهندسين في قسم الطائرات بدون طيّار في شركة آي أى آي، تعد المَصدر والمُصدّر الأبرز في العالم للطائرات بدون طيّار مع بيع أكثر من 1000 طائرة لاثنين وأربعين بلدًا في العالم في حينه.
وكذلك، تعاون البريطانيون مع الإسرائيليين في صناعة طائرتهم التي انتظروها طويلًا والمؤجلة كثيرًا "الواتشكيبر"، والتي تستند إلى طائرة هرميز 450 الإسرائيلية، ولم يتردد الأتراك في الاستعانة بالطيران الإسرائيلي غير المأهول من أجل التجسس ومراقبة الأكراد في شمال العراق، كما اشترت الهند طائرات بدون طيّار فتاكة من صنع إسرائيلي كجزء من سياق سباق التسلح مع الجارة باكستان.
عودة على الحدث
إن فعل استهداف مركبة تُقل فلسطينيين في مناطق الضفة الغربية بواسطة سلاح جوي غير مأهول، يُنذر بالشكل الذي سيكون عليه شكل الاحتلال في الضفة الغربية مستقبلًا. كما يبيّن لنا هذا التطور اللئيم شكل تطور المقاومة الفلسطينية للاحتلال في شمال الضفة الغربية وتحديدًا في نابلس وجنين رغم محدودية إمكانياتها وتواضعها، خصوصًا، بعدما استطاع المقاومون الفلسطينيون مواجهة اجتياح جيش الاحتلال لجنين صباح يوم الاثنين الماضي، والذي أسفر عن استشهاد خمسة شهداء فلسطينيين.
ما أبدته المقاومة في جنين كان فوق توقعات جيش الاحتلال نفسه، إذ اشتبك المقاومون الفلسطينيون مع قوات الاحتلال لساعات طويلة من نهار الاثنين، كما استطاعت تعطيل وعطب عدة مركبات ومدرعات إسرائيلية دخلت جنين، فضلًا عن إصابة وجرح عدد من جنود جيش الاحتلال، مما اضطر جيش الاحتلال إلى خوض اشتباك صار هدفه سحب آلياته العسكرية المعطوبة.
في هذا السياق العمليّاتي أولًا، يمكننا قراءة تحول الاحتلال القذر نحو الاستهداف عبر السماء في مناطق شمالي الضفة الغربية، إذ بات الاشتباك المباشر من على الأرض مكلفًا بالنسبة لجيش الاحتلال، نقول مكلفًا، دون أن ننسى أن حديثنا هنا يجري عن جنين وليس غزة أو جنوب لبنان، بالتالي، وحسب تقارير عسكرية وأمنية نشرتها صحف ومواقع إعلام إسرائيلية نقلًا عن قيادات في جيش الاحتلال خلال اليومين الماضيين، بأنه لم يعد ممكنًا فرض قوة الردع والاستقرار في شمالي الضفة عبر الاجتياحات المباشرة على الأرض فقط، مما بات يتطلب اللجوء إلى السماء أيضًا.
تنتقل المواجهة في الضفة الغربية مع الاحتلال إلى مرحلة جديدة على مستوى الوعي والفعل معًا.
من جهة أخرى، تدرك (إسرائيل) اليوم أكثر من أي وقت مضى بأن دور السلطة الفلسطينية الأمني على مدن وقرى الضفة الغربية في تلاشٍ مستمر لأسباب متعلقة فيها وبالاحتلال معًا، مما بات يدفع الاحتلال إلى أخذ زمام المبادرة بيده الملطخة بالدماء في ضرب كل معقل وزاوية مناهضة للاحتلال في الضفة، والأخطر من ذلك هو القرارات السياسية الاستيطانية الموازية للتدابير العسكرية والأمنية في الضفة، كان آخرها في الإعلان عن مباشرة التخطيط لبناء 1000 وحدة استيطانية جديدة في مستوطنة "عيلي" جنوب مدينة نابلس، حيث الموقع الذي شهد تنفيذ عملية فدائية يوم الثلاثاء الماضي، والتي أسفرت عن قتل أربعة مستوطنين واستشهاد اثنين من منفذي الهجوم.
باتت سياسة الاحتلال واضحة بكل ما يعنيه الأمر من وضوح، استيطان وتهويد سيطال كل شبر أرض في الضفة الغربية، وعدوانية عسكرية متعطشة للدماء حتى لو استدعى الأمر اللجوء للسماء.