ابتلينا في مجتمعاتنا العربية والإسلامية بداء خطير رافق ظهور شبكات التواصل الاجتماعي، وتظهر أعراضه واضحة بازدياد محاولات الانتحار التي تتفاوت مسبباتها المباشرة، وتتنوع أعمار المُقدمين عليها، وتتباين طبقاتهم الاجتماعية ومستوياتهم المادية، إلا أن القاسم المشترك بينها أنهم جميعاً شعروا بعدم القدرة على مواجهة الحياة بعثراتها وتفاصيلها.
اللافت أن كثيرًا ممن أقدموا على هذا الفعل المحرم شرعاً والمجرم قانونًا والمدان عرفًا، لم يكونوا في نظر مجتمعاتهم يمتلكون مبررات أو أسباب مقنعة للإقدام على إزهاق حياتهم، فما الذي يدفع طفلًا لم يتجاوز الثانية عشر من عمره للانتحار؟!، وما هو مبرر شاب يمتلك كل مقومات الحياة ماديًا واجتماعيًّا لقتل نفسه؟! بل كيف يمكن فهم أن ينهي شخص حياته لاستهزاء البعض به؟! وهل تتخيلون أن فتاة تنتحر اعتقادًا منها أن أبويها يهملانها ويفضلون شقيقها عليها؟!
ربما يجتهد البعض في تفسير الأمر بتردي الأوضاع الاقتصادية، وقد تكون أحد الأسباب، ولكن كيف لمواطني الدول الإسكندنافية أن يسجلوا أعلى معدلات انتحار، وفي الوقت ذاته لديهم أفضل مؤشرات اقتصادية وأعلى مستوى رفاهية عالمياً؟!، وحتى في مجتمعنا الذي يعاني ويضرب الحصار بتداعياته كل مناحي الحياة فإن سوء الحالة المادية -بحسب التحليل الموضوعي ودراسة الحالات- لم يكن سببًا لأكثر من 20% من حالات الانتحار، فما هو السبب إذن؟! وكيف يمكن أن نبدأ رحلة مجابهة هذه الآفة الخطيرة على مجتمعنا؟!
دعونا نتفق أولًا أن حياتنا اليوم صعبة بكل تفاصيلها، ولكنها مع ذلك كانت لآبائنا وأجدادنا أشد وأصعب بالهجرة والتشريد واللجوء، فالحياة لم ولن تخلو يومًا من المنغصات والمشكلات كبرت أو صغرت، فلماذا لم يروا هم في إنهاء حياتهم حلًا لمشكلاتهم؟!
وهنا لن أخوض في البعد المرتبط بالوازع الديني فقط على أهميته، ولن أذهب لتبسيط الأمور بالقول إنهم كمجتمع كانوا أكثر تديناً أو التزاماً، وإنما في ظني واعتقادي أنهم كمجتمع كانوا أكثر تحصيناً ومناعة اجتماعية وقوة نفسية.
المختلف اليوم هو طريقة نظرتنا وآلية تعاملنا مع هذه المشكلات، في ظل حالة من الهشاشة والضعف النفسي سببها انكفاؤنا على ذواتنا وتخلينا تقريبًا عن المحيط الاجتماعي الحقيقي لصالح العلاقات الاجتماعية الافتراضية، وبات من المسلَّم به وفق الدراسات وجود علاقة بين مواقع التواصل الاجتماعي وبين حدوث تأثيرات وجدانية عنيفة أو سلوكية سلبية في المجتمعات، مثل ما يعرف بالانتحار المقلد.
وظاهرة الانتحار قبل كل شيء مشكلة اجتماعية، وتعد من أخطر المشكلات الاجتماعية ولكنها مجرد انعكاس للخلل أو الاضطراب الاجتماعي الذي يصيب المجتمعات الإنسانية حاليًا، لذا من المهم معالجة المرض لزوال العرّض.
فالمرض هو ضعف قدرتنا كمجتمع على التعامل مع أزماتنا المجتمعية المختلفة، وضعف قدرتنا النفسية كأفراد على مواجهة مشكلاتنا، لأننا ببساطة أصبحنا معزولين داخل شاشاتنا وأسرى عوالمنا الافتراضية التي نتخيلها كما نشاء ونرسم تفاصيلها وفق أهوائنا ولكنها يقيناً تختلف تماماً عن الواقع الحقيقي، الذي بتنا لا نقوى على مواجهته.
وكما شكلت استخداماتنا غير المنضبطة لشبكات التواصل إطاراً للمرض، فإنها احتوت أيضاً على كل ما يلزم لإقناع بعضنا أن الخلاص الفردي بالانتحار هو الحل، ولن أستشهد بما يحدث في الغرب من عدوى الانتحار المقلد وبث مقاطع الانتحار ووجود صفحات ومواقع تحث عليه، وإنما سأشير لخطيئة ترتكب في تعاملنا مع حالات الانتحار بتبريرها عاطفيًّا أو سياسيًّا أحيانًا وحتى ترميز المقدمين عليها، ما ساهم في تشويه الخريطة الإدراكية تجاه هذا الفعل السلبي.
سلوكنا اليوم هو خلاصة القيم التي تربينا عليها أمس، وتصرفاتنا غدًا محكومة بواقعنا اليوم، وما لم ندق ناقوس الخطر ونتنبه إلى تأثيرات الاستخدام الخاطئ لشبكات التواصل الاجتماعي على صحتنا النفسية كأفراد ومناعتنا كمجتمع؛ فإننا لن نستطيع حصر الكوارث المجتمعية التي تنتظرنا.