أكد العدوان الأخير على جنين والجدل حول السلطة الفلسطينية وأداؤها خلاله على وجود مسارين متضادين، مسار شعبي عام داعم للمقاومة بأشكالها المختلفة، ولا يرى مطلقاً أيّ جدوى من استمرار حالة ما بعد أوسلو، ومسار آخر يُواصل السير على نهج أوسلو رغم اندثاره بإعلان إسرائيلي رسمي وشعبي متكرّر، ورفض تل أبيب لأيّ مسار يُفضي لإقامة الدولة الفلسطينية، بل جعل رفض الدولة الفلسطينية ذاتها عقيدة سياسية ودينية، في دولة تديرها جماعات يمينية متطرّفة.
فلم يكتفِ رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو بتأكيده على رفض إقامة دولة فلسطينية، وإنّما دعا لاجتثاث الفكرة من جذورها، وقطع الطريق على تطلّعات الفلسطينيين في إقامة دولة لهم. وفي جلسة للجنة الخارجية والأمن في الكنيست الإسرائيلي، قال نتنياهو بكلّ وضوح إنّ (إسرائيل) تريد بقاء السلطة الفلسطينية، ومستعدة لدعمها مالياً، لكنها تريد اجتثاث فكرة الدولة، بمعنى أنّ دولة الاحتلال تريد ذراعاً أمنياً، لأنّ مقاربتها للمسألة الفلسطينية تتمحور في المنظور الأمني فقط، لننتقل الآن من مرحلة الحديث عن "البحث عن شريك سياسي" كما كانت تردّد (إسرائيل) كذباً خلال فترة أوسلو، إلى البحث عن "شريك أمني"، والحقيقة أنها لم ترد منذ اليوم الأول من كلّ أوسلو سوى تنسيقه الأمني.
اقرأ أيضًا: ألا يستطيع الشعب تجاوز القيادة الفاشلة؟
اقرأ أيضًا: المنظمة وحق الفلسطيني في حمل السلاح
لا بد للسلطة الفلسطينية والقيادة الفلسطينية من أن تختار بين مشروعين، إما مواصلة المسير في المشروع الأمني الإسرائيلي، أو الانتفاض على كلّ تلك التركة، ولعلّ اللحظة الراهنة فلسطينيا هي الأنسب، فثمّة روح وطنية فلسطينية مجمعة على عبث المسار الحالي، كذلك فإنّ الصراعات داخل دولة الاحتلال وما تشهده ساحتها من انقسامات عمودية وأفقية تكشف وهن هذا الاحتلال وهشاشته، ولذا فربما تكون اللحظة الحالية هي اللحظة الفارقة للتوبة الكاملة والنصوحة عن مسار أوصل الشعب الفلسطيني وقضيته لحائط مسدود، وساعد (إسرائيل) في إطباق حصارها عليه، والمضي قدماً في تنفيذ مشروعها في التهويد وفرض حلّ صهيوني للصراع، ومن طرف واحد، عبر قضم وهضم الأراضي والتغيير الجغرافي والديمغرافي، وعزل الفلسطينيين في كانتونات محاصرة لا تتنفس إلا بإذنها، وقد منحها أوسلو والأوسلويون للأسف غطاء خلال الثلاثين عاماً الماضية، بالكذب على العالم بأنها جادة في الوصول إلى تسوية سلمية، فيما كانت تُواصل تنفيذ مشروع التهويد والاستيطان، وفيما كان عرابو أوسلو يتفاوضون في المكاتب والفنادق، كانت (إسرائيل) تُنهي المفاوضات بطريقة أخرى على الأرض.
من جهة أخرى، فقد بات الحديث عن المصالحة والوحدة الوطنية الفلسطينية أمراً مكرَّرًا حدّ الملل، والحقيقة التي باتت واضحة للعيان أنه لا يمكن أن تتحقّق المصالحة، ليس جرّاء تعثّر جولاتها السابقة التي لا تجد فلسطينياً يمكنه إحصاء عددها وأماكن انعقادها ووسطائها، وإنّما جرّاء ما بات واضحاً من وجود مشروعين متناقضين، مشروع المقاومة بكلّ أطيافه، وبكلّ أشكاله وفاعليه، وآخره "الحالة الجنينية"، إن صح التعبير، أو نموذج جنين ومقاومتها وتحديها، ومشروع التنسيق الأمني بكلّ خيباته وانتكاساته وتردّيه.
والحقيقة، أنّ المطلوب الآن الاختيار الواضح بين النهجين، وتحقيق ذلك لا يمكن إلا عبر وسيلتين بتقديري: إمّا حلّ السلطة والعودة لما قبل أوسلو ووضع (إسرائيل) أمام الأمر الواقع وإنهاء حالة الاحتلال المجاني التي استفادت منها طوال الثلاثين عاما ونيف الماضية، أو تغيير وظيفة السلطة باتجاه أن تكون سلطة أو مجلس قيادة وطنيا لشعب تحت الاحتلال يدير المعركة مع دولة احتلال، وتوظيف كلّ الطاقات الوطنية والعلاقات العربية والإقليمية والدولية بهذا الاتجاه، وفي هذه اللحظة التي تبدو فيها واشنطن الداعم الرئيس (لإسرائيل)، محرجة ممن يقودها، وتشعر بصعوبة الدفاع عنهم مع سجلهم المُغرق في اليمينية والإرهاب والتطرف، ما يعني أنّنا أمام لحظة يجب أن يستغلها صنّاع القرار الفلسطيني جيداً، للعودة إلى الصواب الوطني وإهالة التراب على كلّ التيه السابق، أو سنوات الضياع.