صحيح أن العدوان على جنين انتهى قبل أيام، لكن القناعة الإسرائيلية الراسخة أنه لن يشكل حلًّا سحرياً لوقف سلسلة الهجمات الفدائية التي تضرب الأهداف العسكرية والاستيطانية في مختلف أنحاء الضفة الغربية، ما يستدعي، وفق وجهة نظر الاحتلال، العمل على تحقيق العزم والردع الذي بات مفقودا، وصولا لإمكانية الشروع في شنّ عدوان شامل إذا لزم الأمر، في حال فشلت الجهود الجارية.
لعلّ نقطة الضعف الأساسية التي واكبت سلسلة العمليات التي ضربت الاحتلال خلال الشهور العشرين الأخيرة أنها تسببت في تصدّع عقيدته القتالية التقليدية الداعية لنقل الصراع لأراضي العدو، لتحقيق إنجاز عسكري سريع في الأيام الأولى لأي حرب، لأن قادة الاحتلال أدركوا منذ اللحظات الأولى أن "الدولة" صغيرة، وليس لها عمق استراتيجي، ومواردها محدودة.
اليوم، لا يتردد الإسرائيليون في الإعراب عن خيبة أملهم لأنهم يجدون أنفسهم في وضع معاكس و"سخيف"، فقد تم نقل القتال داخل أرض فلسطين المحتلة، ونشأت المزيد من الخلايا المسلحة التي اخترقت جبهتهم الداخلية، ما زاد من دعواته لتنفيذ عدوانات تعيد صورة الردع والحسم المتآكلة.
اقرأ أيضًا: لماذا يُفْرِط الاحتلال الإسرائيلي في القوة؟
اقرأ أيضًا: من غزة إلى جنين.. صواريخ المقاومة تعادل الكفة
بالعودة لما عاشه الاحتلال منذ انتفاضة الأقصى، فقد وصل إلى وضع خاض فيه جملة مواجهات عسكرية داخلية على شكل هجمات وعمليات بدلاً من الحروب النظامية على جبهات واسعة، واليوم بات منشغلا بملاحقة المنظمات المسلحة، الكبيرة والصغيرة، في مجموعة متنوعة من العمليات المحدودة، وسط عدم يقين بالقدرة على تحقيق الأهداف المرجوة من هذه العمليات، وعنوانها الأساسي: التغلب على المقاومة.
اللافت أن الإسرائيليين يهربون عادة عند تقييم إخفاقاتهم العسكرية والعملياتية بتبرئة ساحة الجنود والجيش، واللجوء لاتهام المستوى السياسي بالفشل في استثمار نتائج العمليات الصعبة والخطيرة التي تشهدها الأراضي الفلسطينية المحتلة، والحصيلة أن الناتج السياسي - الأمني لهذه العدوانات يظل دائمًا محدودًا، ويلبّي تعريف ما يسمى "الحفاظ على الوضع الراهن"، دون محاولة تغيير الواقع حقًا، مع بعض التحسينات المؤقتة، وفق وجهة النظر الإسرائيلية.
الخطورة هنا، كما ترد على ألسنة النخب السياسية والعسكرية الإسرائيلية، أنه بين عدوان وآخر يتعافى الفلسطينيون، ويستعدون للانطلاق نحو العملية التالية، وهو ما ظهرت عليه الأمور في العقود التي تلت توقيع اتفاق أوسلو، والانسحاب المهين من لبنان وغزة، وما تسببت به حرب لبنان الثانية وحروب غزة الأخيرة.
في مثل هذه الحالة، ليس عفوياً أن تدعم الحكومة مليشيات المستوطنين الإجرامية، ولا سيما "فتيان التلال"، وتزايد الدعوات لإحكام سيطرتها على المساحات التي توجد فيها المستوطنات، تمهيدا لتوطين قرابة مليون مستوطن، وكلها خطوات ذات صبغة "استراتيجية" رديفة للعدوانات العسكرية غير الحاسمة.