في إطار "معركة الإعداد والتطوير المستمر وكسر المعادلات مع الاحتلال، ورداً على جرائمه في مخيم جنين، أعلنت كتيبة "العياش" التابعة لكتائب عز الدين القسام الذراع العسكرية لحركة حماس في جنين إطلاق الصاروخين من طراز "قسام 1″، على المستوطنات الصهيونية المحاذية لجنين، وهي مستوطنة “شاكيد” ومستوطنة “رام أون”، وقبلها بشهرين في مايو الماضي، رصد الاحتلال محاولات عدة لإطلاق الصواريخ بدائية الصنع من جنين، تحديداً باتجاه تلك المستوطنات، ما يدلل على دخول المقاومة في عهد جديد من الإعداد والتطوير لعملها، وتكتيكاتها، ووسائلها، وأدواتها، والبدء في ترسيخ معادلة “الردع”، وقد أصبحت جنين شوكة في حلق الاحتلال، ما أفسح المجال أمام وسائل الإعلام الإسرائيلية لبدء ترديد مصطلح "غلاف جنين"، في إشارة إلى "غلاف غزة"، التي على مدار عقدين كاملين تقصف عمقه وأطرافه بصليات صاروخية يقف عاجزاً عن صدها، رغم كل ما يملكه الاحتلال من الإمكانات والمنظومات العسكرية الدفاعية المتطورة، وعلى رأسها منظومتا “القبة الحديدية” و”مقلاع داود”.
إطلاق كتائب القسام الصواريخ من جنين على المستوطنات الصهيونية في الضفة يعد تطورا نوعيا في عمل المقاومة ودليلا على استمراريتها وزخمها المسلح، رغم العدوان الإسرائيلي الأخير على مخيمها، وقد دمر البنية التحتية وهدم البيوت وجرف الشوارع وحرث الأرض ناهيك بالمجزرة التي اقترفتها جنود الاحتلال، فلم يحقق أي هدف من أهدافه وفشلت حملته العسكرية فشلاً ذريعاً، كما فشل في عدوانه على نابلس وطولكرم، وأريحا، بسبب تصدي كل مدينة بكتيبتها للاحتلال دفاعا عن النفس، لا بل تطور عمل المقاومة لينتقل من مرحلة الدفاع إلى مرحلة الهجوم بالصواريخ والقذائف، ليتأكد الاحتلال للمرة الألف أنه لم يستطع، على الرغم من كل محاولاته، القضاء على فكرة المقاومة. في حين تتواصل العمليات الفدائية يوميا ضد أهداف صهيونية، لتثبت فشل كل الإجراءات الأمنية والاستخبارية الإسرائيلية في مواجهتها أو منعها أو التكهن بمكانها وزمانها، في ظل الاستراتيجية الجديدة التي يتبعها المنفذون، التي تعتمد على قرار شخصي فيما عرف بالعمليات الفردية أو “الذئاب المنفردة” كما يسميها الاحتلال، ما يعني أنه ليس على الاحتلال سوى انتظار العملية المقبلة.
لم تكن صواريخ جنين التجربة الأولى في المقاومة الصاروخية، بل سبق أن خاضت عدة تجارب ناجحة أوجعت الاحتلال وآلمته كثيرًا، فالضفة لها تاريخاً طويلاً من إطلاق الصواريخ على مستوطنات ومدن الكيان -بحسب تقرير لقناة 12 العبرية الشهر الماضي- وكان أولها عام 1970 بإطلاق صاروخين من طراز كاتيوشا من قرية بتير قرب القدس باتجاه المدينة ما تسبب بأضرار، وفي عام 1971 أطلقت من دير بلوط قرب رام الله تجاه مستوطنة “بتاح تكفا” وأدت لمقتل 4 مستوطنات، ووفق القناة، خلال بداية الانتفاضة الثانية في 2000، كما كانت هناك محاولات مماثلة من جنين وطولكرم ونابلس، وتم في عملية "السور الواقي" تدمير معامل لإنتاج صواريخ في نابلس كانت ستنقل لمحافظات أخرى، وأيضاً تم الكشف عن محاولة تصنيع صواريخ في اليامون تابعة لخلية القسام في 2005، وكذلك الكشف عن نقل 8 صواريخ أخرى في ذاك العام من نابلس إلى مناطق أخرى في الضفة.
فرغم كل الظروف الأمنية المعقدة والحساسة، والعمل المستحيل، وقلة الإمكانات والأدوات، لكن المقاومة تواصل الليل بالنهار لتطوير قدراتها لمعادلة الكفة على طريقة غزة، صحيح أنها متقدمة جداً في تطوير السلاح الصاروخي على شقيقتها الضفة، لكن الأخيرة كانت صاحبة الفكرة الأولى والسباقة في امتلاك هذا النوع من السلاح، فكما يقولون “الطريق تبدأ بخطوة”، فما وصلت إليه تكنولوجيا صواريخ غزة في بلوغ أقصى الأهداف، لم يأتِ من قبيل الصدفة، بل مر تطور صواريخ المقاومة في غزة بعدة مراحل، فكانت انطلاقتها في 2001، حين سقط أول صاروخ لكتائب القسام الذراع العسكرية لحركة حماس محلي الصنع داخل مستوطنة “سديروت” الواقعة بعمق نحو 1.6 كيلومتر من غلاف غزة، والذي أطلقت عليه اسم "قسام-1"، ورغم بدائية هذه الصواريخ خلال تلك الفترة (2000-2007) والمدى الذي كانت تبلغه، وحتى طريقة الإطلاق مقارنة مع الصواريخ الحالية التي تمتلكها الفصائل بأنواعها وقدراتها المختلفة، إذ كان حجم الضرر المادي والإصابات طفيفًا للغاية، ومنذ ذلك الحين عمل مهندسوها على تطويره بإمكانات بدائية للغاية، رغم صعوبة وصول المعلومات وحتى المواد المستخدمة في عملية تصنيع الصواريخ، وقد انتشرت الفكرة لتشمل مختلف الأذرع العسكرية لقوى المقاومة، لما تمتلك من صواريخ متطورة للغاية من ناحية الكم، والسرعة، والدقة في بلوغ أهدافها وقوتها التفجيرية، والمسافة التي بدأت من 7 إلى 10 كلم، ثم زاد مداها لتصل إلى 25 و40 كلم، واليوم تصل مدى الصواريخ من 80-120 كلم، أبرزها صاروخ جي-80 نسبة إلى الشهيد أحمد الجعبري المزود بتقنيات خاصة، ناهيك بكثافة وزيادة أعداد الرشقات الصاروخية المطلقة، فبعد أن كانت عمليات الإطلاق لا تتجاوز بضعة صواريخ، باتت الأذرع العسكرية تمتلك القدرة على إطلاق مئات الصواريخ في يوم واحد، وقد عملت على تحييد القبة الحديدية وإخراجها عن الخدمة.
إن وصول المقاومة في الضفة إلى مرحلة امتلاك أو تصنيع الصواريخ، بمنزلة ضربة قوية للمنظومة الأمنية للاحتلال والسلطة التي تتعاون وتنسق معه، بعدم معرفة كل منهما بما تمتلكه المقاومة من اسلحة إلى هذه اللحظة، فوفقاً لتقرير المراسل العسكري للاحتلال، يوآف زيتون، للموقع الإخباري-العبري (YNET)؛ فإن أكثر ما يقض مضاجع القوى الأمنية الإسرائيلية أنّها لا تملك معلومات عن عدد أو حجم الأسلحة الموجودة بالضفة الغربية، مضيفاً أن جيش الاحتلال لا يعرف شيئاً، موضحاً أنه من خلال إحاطة من الشاباك وجيش الاحتلال وبقية القوى الأمنية فإن عدد الأسلحة بالضفة الغربية يصل إلى عشرات الآلاف وربما أكثر.
هذا يدلل على قوة المقاومة وزخمها في الضفة للتصدي للاحتلال بكل ما تملك من غال ونفيس، وقد استطاعت تغيير قواعد الاشتباك في السابق، إذ كانت رشقة صواريخ من غزة تخمد غضب الشارع المقدسي والضفاوي حين تحدث رداً على أي انتهاك من الاحتلال، لكنها -أي المقاومة- اليوم في الضفة المحتلة أصبحت لا تنتظر رد غزة، بل أخذت على عاتقها الرد على انتهاكات الاحتلال أولاً فأول، فما لا تطوله بنادقها، تستطيع صواريخها تأدية الواجب بقصف المستوطنات المحاذية، وربما تصل في قادم الأيام إلى أبلغ من ذلك بالوصول إلى أماكن حساسة في عمق للاحتلال، مستغلة بذلك قرب المسافة، خاصة أن جنين على مقربة من مدن الداخل المحتل.