صحيح أن مشهد حاخامات يهود يرقصون مع رجال أعمال عرب في العاصمة البحرينية "المنامة" قبل عدة أشهر كان صادماً ويدعو لكثير من التساؤلات والتفسيرات، لكنه اليوم وبعد التسريبات التي تحدثت عن نية ملك "البحرين" فتح باب التطبيع مع الكيان الصهيوني أصبح مفهوماً، خاصة إذا علمنا أن العلاقات بين البحرين ودولة الكيان بدأت منذ 1999م.
لا يمكننا الحديث عن "التطبيع" مع الاحتلال الصهيوني دون استحضار اتفاقية "كامب ديفيد" عام 1978م مع مصر واتفاقية السلام المصرية-الاسرائيلية عام 1979م. كما لا يمكن عزل التطبيع الأردني الكبير مع الاحتلال في اتفاق وادي عربة عام 1994م بُعيد توقيع اتفاق أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية عام 1993م، حيث تم فتح الباب واسعاً أمام مكتب تمثيل تجاري مع العدو الصهيوني في العاصمة العُمانية "مسقط" عام 1995م وآخر في "الدوحة" عام 1996م.
كما لا يمكن حصر التطبيع مع العدو الصهيوني في شكل سياسي أو اقتصادي فقط، بل إن التطبيع الذي يعني "إعادة العلاقة بين طرفين بحيث تصبح العلاقة بينهما طبيعية" يتعدى ذلك إلى التطبيع الإعلامي والثقافي وحتى الأكاديمي والديني. لقد كانت دعاوى المطبعين في البداية أنهم يقومون بالتطبيع خدمة للقضية الفلسطينية، ثم تطور "الفكر التطبيعي" إلى القول بأن التطبيع هو اعتراف بالواقع واستجابة موضوعية لحقيقة وجود "دولة إسرائيل"! بل إن وزير الاستثمار السوداني في أغسطس الماضي قال إن "القضية الفلسطينية قد أخرت العالم العربي"، معبراً عن حالة من تشوه الفكر وسطحية التفكير.
والعجيب أنه في الوقت الذي ينشط فيه الأوروبيون في مقاطعة دولة الاحتلال، نرى العرب يلهثون خلف التطبيع في مشهد لا يمكن وصفه بأقل من أنه جريمة بحق تاريخهم ومقدسات أمتهم، وكأنهم يغفلون عن أنهم لن يحصلوا من وراء التطبيع على أكثر من "تحسين شروط الهزيمة" في معركة الوعي والتفوق الحضاري.
ولعل تصريحات المسؤولين الإسرائيليين وعلى رأسهم رئيس الوزراء "بنيامين نتنياهو" التي أكد فيها غير مرة بأن بلاده تتمتع بعلاقات نوعية مع العديد من دول المنطقة العربية، كلها تعتبر تطبيقاً لمشروعه الكبير الذي يسميه "السلام الإقليمي"، وهو في الحقيقة يمثل التطبيع بوابته الأكبر. وهنا من المهم وضع تعريف صريح للتطبيع يمنحنا وضوح الرؤيا والهدف، فالتطبيع في مفهومنا الفلسطيني والعربي والإسلامي هو "كل علاقة تنشأ مع الاحتلال الصهيوني تشرّع وجوده على أرض فلسطين”.
إن ذريعة العرب بأن التطبيع يمثل دعما للقضية الفلسطينية؛ تسقط أمام حالة الضعف الذي عانته كل الدول التي طبعت مع الكيان الصهيوني، فقد فقدت مصر سلطانها الأمني على "سيناء" وهي اليوم تجني ويلات الهيمنة الاقتصادية الإسرائيلية، كما أن الأردن قد خسرت حقها المائي في "غور الأردن"، بل إنها اليوم لا تجرؤ على الحديث حوله، فيما لم تفلح أسلحة قمع المتظاهرين الإسرائيلية في إيقاف "الربيع العربي" في تونس! والتي كانت تحمل عبارة "صنع في إسرائيل"!
نعم لقد وقعت منظمة التحرير الفلسطينية اتفاقية أوسلو وطبّع العرب مع العدو الصهيوني؛ فما عادت فلسطين ولم تنته القضية الفلسطينية، بل أضاعوا 78% من فلسطين ولا يزال لاحتلال الصهيوني يرفض حتى التفاوض حول الـ 22% المتبقية!
إن التطبيع مع الاحتلال الصهيوني هو انعكاس نفسي لحالة الهزيمة أمام العدو؛ فعدونا يقوى عندما نضعف ويؤول إلى زوال عندما ننهض، بل إن التطبيع هو بداية الانكسار ونهاية الشعور بالذات الوطنية، ومعلوم أن التطبيع سينفي -بالضرورة- حقنا في التحرير والحرية.
رغم كل الجهود التي بذلها المطبعون من أمثال الجنرال السعودي "أنور عشقي" والملك البحريني، بل والحديث المصري المستفيض عن "السلام الدافئ"، وكذا المراهنة على "صفقة القرن" الوهمية في تحقيق "السلام الإقليمي"؛ إلاّ أن وعي شعوبنا العربية وحالة الرفض التي تبديها؛ لا تزال تمثل حصناً مهماً في مواجهة كل محاولات شطب الوعي العربي بطبيعة العدو القائمة على نفي الآخر، واستدراجه إلى التبعية الاقتصادية والعبودية السياسية، تحت ضغوط الإعلام والمؤسسات الدولية المتماهية معه. وستبقى الحملات الشعبية تمثل قوة وعي وحصانة فكر ورادع سلوك أمام المطبعين ودعاته.