بلى، يمكن للتاريخ أن يعيد نفسه، وإنْ بأشكال مختلفة. ويمكن لقطاع غزّة المظلوم جداً، الفقير، المقهور، إنّما البطل بشعبه ومقاتليه، أن يهزم كياناً وحشيّاً يمارس ضدّه أقصى درجات الوحشيّة، والإجرام، والتنكيل، والتدمير، والحصار، وأن يحدّد له مدى اصطياد قوتِهِ من البحر، ويسدّ منافذه، ويهدم منازله، ويقتل أطفاله ونساءه ورجاله، عاجزاً عن هزمه وإركاعه وتيئيسه والنيل من كرامة مليونين من سكّان بقعته الضيّقة الأكثر اكتظاظاً في العالم.
إسبرطة الجديدة، الكيان الصهيونيّ غاصب الأرض والتاريخ، مسلّحة حتى أسنانها. هي مثل إسبرطة البلقانيّة القديمة "دولة لجيش" لا "جيش لدولة"، كيان يحترف القتل الجبان جوّاً والعدوانية والإخضاع، حتى باتت صورة طبق الأصل عن إسبرطة التاريخ القديم. العقيدة ذاتها والتكوين عينه والعنجهيّة إيّاها. كانت قوة عسكرية منقطعة النظير، اتّسع نفوذها الواقعيّ والمعنويّ على ما جاورها من المدن الإغريقية، إثر تحوّلها إلى دولةٍ عسكريةٍ يحكمها العسكر وذات أهداف توسعيّة دائمة، على أن تكون الحرب وسيلة الكسب والردع، فضلاً عن تمجيدها العمل العسكري، حتى أمسى الجندي في أعلى درجات السلّم الاجتماعي، وتدرّبت نساؤها على الحرب والقتال ... ألا تنطبق هذه الصفات حفراً وتنزيلاً على الكيان الصهيونيّ المُعَسْكر والتوسّعي والعدوانيّ؟!
أمّا غزّة الطرواديّة فمثل قرينتها القديمة، صغيرة المساحة، مسالمة ومُحاطة بأسوار متينة تذكّر بأسوار عكا المنيعة (أسوار غزّة من لحم ودم، من مقاومين أبطال وشعب صامد وصابر على الضيم والموت والشهادة، وقد ورثت مناعة أسوارها البشرية من أسوار عكّا الأسطورية). هوجمت طروادة مراراً، واُحرقت، واشتُهر اسمها من حكاية الحصان الخشبي الضخم الذي اختبأ الإسبرطيون في جوفه لاقتحامها بالحيلة والدخول إلى قلب المدينة. والمهمّ في استعارتنا أنّ المدينة الصغيرة تمكّنت من صدّ أعدائها، على مراحل عديدة، وفي مقدّمهم إسبرطة المعسكرة والمرعبة.
هي أيضاً، في باب الرمز والاستعارة، حرب الفلستيّ جالوت أو جليات ضدّ داود الشاب، ملك "إسرائيل" المستقبلي بحسب الخرافة التوراتية، وقد تعملق جالوت في وجه داود رغم اختلال ميزان القوة وأخافه وأرعبه وأفقده صوابه. هكذا في الرواية التي أتى حتى القرآن الكريم على ذكرها.
المحبطون والمشكّكون المصابون بداء الريبة وفقدان الثقة بالذات ما انفكّوا حتى الساعة غير مؤمنين بقدرة غزّة على الوقوف في وجه الكيان والانتصار عليه. أبطال غزّة يقاتلون باللحم الحيّ وببسالة المقاومين وبضعة صواريخ. يصبرون، وفي النهاية، ينتصرون رغم الشهادة والألم، ويستمرّ المشكّكون في شكّهم، والمتردّدون في تردّدهم، والمنظّرون في تنظيرهم، والجبناء (عذراً) في جبنهم. لا يعلمون أنّ في التاريخين القديم والحديث أمثلة لا تُحصى عن شعوب أو مدن صغيرة هزمت إمبراطورية كبرى توسّعية، عدوانية، مستعمرة. ولو تجاوزنا التاريخ القديم ومثال طروادة ضدّ إسبرطة، ماذا عن حرب تحرير الجزائر ضدّ الاستعمار الفرنسي (ثورة المليون شهيد)؟ وهل كانت قوة فيتنام تضاهي 1% من قوة الولايات المتحدة يوم هُزمت هذه هناك، وخرجت بخسائر فادحة في عديد جنودها القتلى أو المعوّقين؟ حتى العرب حقّقوا انتصارات ضدّ الكيان الإسبرطيّ الحديث يوم اتّحدوا سياسيّاً ووحّدوا قواهم العسكرية، ثم هزموا في حروب ومعارك وخسروا من أراضيهم يوم اختُرقت صفوفهم واهتزّت وحدتهم بفعل التلكؤ أو الخيانة والعمالة.
غزّة مدعاة فخر واعتزاز اليوم، رغم الوجع المستمرّ والحصار المحكم من جهتي المحتلّ و"الأخ" العربي (مصر الفاقدة بوصلتها في الداخل والخارج)، فالصهاينة يعلمون علم يقين، مثلما نعلم نحن أيضاً، فلسطينيين وعرباً وأنصاراً لقضية العرب المركزية الأولى، أنّ الصراع طويل، انتقل وسيظلّ ينتقل من جيلٍ إلى آخر. كما سيبقى قطاع غزّة شوكة في حلق الإسرائيليّ، مثلما كان في زمن الصهاينة الأوائل. ألم يكن حلم بن غوريون أن ينام ويصحو فيرى غزّة وقد ابتلعها البحر؟! لكن عقودا مرّت احتلّ فيها الصهاينة أجزاء من القطاع بنوا فيها مستوطنات، ثم أفضى صمود غزّة إلى إجبار العدوّ المحتلّ على تفكيك مستوطناته والخروج من "جحيم" غزّة. فلماذا لم تُجْدِهِ، هذا العدوّ المعسكر حتى أسنانه، قوّته العسكرية في الإبقاء على مستوطناته وإنهاء "كابوس" غزة؟! أليس ذلك برهاناً على قدرة الطرف الضعيف، شبه الأعزل، على هزم الطرف الأقوى فائق التسلّح؟! وبماذا يمكن أن يتحقّق نصر مماثل؟ أليس بالإرادة والعزم في وجه الارتكاز على الباطل وفقدان العزيمة؟ أليس بالشجاعة مقابل الجبن؟ أليس بالإيمان بالأرض والهوية مقابل الشك في الملكيّة الحقيقية لهاتين الأرض والهوية؟
إنّها معركة وجود وبقاء واسترداد للأرض والوطن، من سلسلة معارك ستظلّ تندلع بين قوّة الحقّ وبطلان الواقع المفروض بالقوّة.