ما إن علت أولى رنات الهاتف معلنة عن اتصال جديد في بيت الأسير يسري المصري المصاب بمرض السرطان، حتى بدأت دقات قلب شقيقه ياسر تدوي كطبول الإعدام، وقد تسمر أمام الهاتف وبدأ لسانه يلهج "سترك يا رب".
انتهت المكالمة بعد دقائق هذه المرة غير أن الخوف على حياة الأسير الذي يعاني وضعًا صحيًا حرجًا في سجون الاحتلال لا ينتهي أبدًا بالنسبة لياسر، ويتراءى له أن الخبر العاجل سيباغته في أي لحظة. هذه الحال لم تقتصر على ياسر فحسب، فالعائلة التي تسكن مدينة دير البلح، وسط قطاع غزة، بات مصيرها واحدا منذ اعتقال يسري.
"لم يكن يعاني من أي شيء.. اعتقل وهو بصحة جيدة ولم يشكُ يومًا ما مرضًا.." يقول ياسر بصوت تملؤه الحسرة على حال شقيقه.
كان يسري _الطالب في السنة الأولى بجامعة الأقصى، تخصص لغة إنجليزية_ شابا رياضيا من الدرجة الأولى يهواه الجميع، لكن الاحتلال أراد له غير ذلك؛ فقرر اعتقاله في 10 حزيران (يونيو) لعام 2003، من بيته بحي المشاعلة، جنوبي غرب دير البلح.
"ما إن تمكنوا من اعتقاله حتى انهال جميع الجنود والضباط الموجودين على يسري بالضرب بأعقاب البنادق.. كان يصرخ بصوت عالٍ ويتأوه ألمًا ونحن مقيدون ومعصوبون" يقول ياسر لـ"فلسطين" مستذكرًا تفاصيل ليلةٍ لم يمح مرور الزمن رسومها من ذاكرته.
ومضت 9 أيام من التحقيق قبل أن يبقي الاحتلال على اعتقال يسري، ويفرج عن أفراد عائلته.
أسر يتبعه مرض
ومع ذلك بدأت رحلة معاناة جديدة للأسير الذي حكم عليه بالسجن لمدة 20 سنة، خلف قضبان السجون بدأت من لا شيء وانتهت بالسرطان. وعن ذلك يقول ياسر: "بعد اعتقال شقيقي بـ6 أشهر، بدأ يعاني من التهابات وحساسية في عينيه بسبب أجواء الصحراء في سجن (نفحة)".
ويضيف "كان الأمر هينًا، لولا الإهمال الطبي وعدم موافقة إدارة السجون على تقديم العلاج اللازم لما تفاقم الأمر وأصيب بالتهابات حادة حتى بات يعاني من ضعف في الرؤية".
ولاحقًا، بدأ يسري يشكو آلامًا في مختلف أنحاء جسده تفاقمت بفعل اكتفاء إدارة سجن (نفحة) بإعطائه المسكنات لقرابة 3 سنوات، حتى ظهرت أخيرًا 3 انتفاخات في الرقبة، ثبت لاحقًا أنها أورام سرطانية.
على إثر هذا، أُثيرت حالة من الغليان في سجن (نفحة) من قِبل الأسرى رفضًا لمماطلة إدارة السجن في علاج يسري وإهماله طبيًا حتى وصلت حالته إلى هذا الحد.
علاوةً على ذلك، ترفض إدارة السجون إدخال طبيب مختص إلى يسري للكشف على حالته، وهو ما يثير مخاوف العائلة على حياة ابنها.
ويقول شقيقه ياسر: "نتوقع في أي لحظة أن يباغتنا خبر استشهاده".
وكان والد الأسير توفي في عام 2008 عن عمر (70 عامًا) دون أن يلقي يسري نظرة الوداع عليه، فيما انقطعت والدته في السبعينيات من عمرها، عن زيارته لكبر سنها وعدم مقدرتها على تحمل مشقة السفر.
وبذلك، بتنا لا نعلم شيئًا عن حالة يسري، كما يقول شقيقه.
وحالة يسري ليست الأولى أو الأخيرة، فهناك عدد من الأسرى المرضى يقدر بأكثر من 1300 أسير، بينهم قرابة 240 مصابين بأمراض مزمنة، حسبما أفاد ناشط في قضية الأسرى لـ"فلسطين".
الهمص.. نموذج آخر
ويشكل الأسير علاء الهمص (42 عامًا) المعتقل في سجن "ريمون"، ويقضي حكمًا بالسجن لمدة 29 سنة، وجها آخر لمعاناة الأسرى.
وتقول زوجته ايناس لـ"فلسطين"، إن "علاء أصيب بمرض السل في سجون الاحتلال وفقدان النظر في عينه اليسرى".
وكان الهمص اعتقل في 24 كانون أول (يناير) لعام 2009، من مدينة رفح، جنوبي قطاع غزة، ووجهت له تهمة القيام بأعمال مناوئة للاحتلال.
ويضاعف قرار منع الزيارة، من معاناة الأسير الهمص _الوالد لثلاثة من الأبناء وبنت واحدة_ وعائلته التي تسكن في مدينة رفح، جنوبي القطاع.
وكان الأسير الهمص قبل اعتقاله معافى، لكن بعد اعتقاله ظهرت عليه عدة أمراض، كان آخرها تضخم في الغدة الدرقية "يشتبه بأنه سرطان" بحسب زوجته.
ودفعته حالته المرضية، للمطالبة أكثر من مرة بنقله إلى مستشفى سجن "الرملة"، تجنبًا لمعاناة السفر لساعات طويلة في مركبات عسكرية تعد سجنًا متنقلاً، في كل مرة يحتاج فيها للعلاج في مشافي الداخل المحتل سنة 48.
وتقول: "القلق على حياة علاء لا يفارقنا، فحالته الصحية في تدهور مستمر مع الإهمال الطبي الذي تتبعه إدارة السجن، فالاهتمام مفقود بفئة الأسرى المرضى".
أما الشاب إبراهيم الشاعر البالغ من العمر (22 عامًا)، فهو الآخر نموذج جديد لمعاناة الأسرى المرضى.
وكان إبراهيم، يعاني من ورم في الفم تفشى لاحقًا، فبحثت له العائلة عن علاج في غزة لكنها لم تجد، وعلى إثر ذلك حول للعلاج في مستشفى الخليل.
غير أن قوات الاحتلال اعتقلته داخل معبر بيت حانون "إيرز" شمالي القطاع، وحالت دون وصوله إلى المستشفى.
وطرأ سوء على حالة إبراهيم الصحية، ما أخضعه لعلاج في مستشفى "سوروكا" بالنقب المحتل من مرض السرطان، الذي أكد والده أنه كان "حميدا" وتعافى منه لاحقًا.
لكن العائلة لم تتعاف بعد من حالة القلق التي تهيمن عليها وتفرض سطوتها بفعل الإهمال الطبي الذي يمارسه الاحتلال بحق الأسرى.
واعتقل إبراهيم في 9 تموز (يوليو) لعام 2015، واتهمه الاحتلال بتنفيذ نشاطات مناهضة له، وحكم عليه بالسجن 10 سنوات.
وتتمنى العائلة أن يتجاوز إبراهيم محنته، وأن تراه محررًا خارج السجون. "فهو لا يغيب عن بالنا لثانية واحدة، ننتظر يوم الإفراج عنه لحظة بلحظة" يقول والده لـ"فلسطين".
وحالة هؤلاء الأسرى الثلاثة ما هي إلا نماذج حديثة لأسرى أمضوا سنوات في السجون، فمنهم من استشهد بفعل الإهمال أو القتل العمد ووسائل أخرى حاول الاحتلال من خلالها تصفية عدد من هؤلاء الأسرى، ومنهم من يحتضر خلف القضبان.
كيف يتم الإهمال؟
والأسير المحرر في صفقة "وفاء الأحرار" رائد درابيه، من مخيم جباليا، شمالي قطاع غزة، واحد من هؤلاء، ويومًا ما كان سينضم إلى قائمة شهداء الحركة الأسيرة.
كان درابيه يعاني من آلام حادة أسفل الظهر، ولاحقًا ظهرت أكياس دهنية في ذات المنطقة، بسببها كان يعاني من ارتفاع في درجة حرارته بشكل مستمر، والتي كانت تصل إلى 40 درجة مئوية أو 40,5.
وبين درابيه لـ"فلسطين"، طريقة الاحتلال في ممارسة الإهمال الطبي، إذ لفت الأنظار إلى أن أي أسير يشكو من مرض معين وبحاجة لاطلاع طبيب على حالته، لن يتم تلبية طلبه قبل شهر ويزيد أحيانًا.
"وهذا يؤدي إلى تفاقم الحالة الصحية، وظهور أعراض جديدة غير قابلة للعلاج" يضيف درابيه.
وفيما بعد، أجرى الأطباء له عملية لإزالة الأكياس الدهنية، وبعد 3 أشهر ساءت حالته الصحية وتطلب ذلك إجراء عملية ثانية في نفس المكان من أصل 6 أجريت له عندما كان أسيرًا، لكنها لم تشفه من مرضه.
وفي أعقاب ذلك، اطلع طبيب إسرائيلي يحمل درجة بروفيسور، على حالته الصحية، وبعد الكشف، أخبره أنه مصاب بسرطان في النخاع الشوكي.
وفاجأ هذا الأمر الأسير درابيه، لكنه لم يقتنع بذلك وقرر رفض تناول أي أدوية يدعي أطباء تابعون لإدارة السجون أنها ستشفيه من مرضه.
وذكر أن أحد عناصر مخابرات الاحتلال دخل عليه مرة في زنزانة عزل انفرادي، وأراد إعطاءه قرصا مغلفا بـ4 طبقات كان موضوعًا داخل عبوة صغيرة مثل التي يوضع فيها خاتم الذهب.
أمام هذا الموقف، كانت ردة فعل درابيه قاسية حتى وصل الأمر إلى تهديد عنصر المخابرات الذي جاء على هيئة طبيب بـ"القتل" إن حاول إعطاءه ما يدعي أنه دواء؛ قبل أن يقرر التوقيع على ورقة تفيد برفضه جميع أنواع العلاجات التي يقدمها الاحتلال.
ولاحقًا، بعد الإفراج عن درابيه في صفقة "وفاء الأحرار" نهاية عام 2011، أجريت له عملية في غزة واكتشف الأطباء أن سبب الألم الذي كان يقض مضجعه ويدعي أطباء الاحتلال أنه سرطان، عبارة عن ضمادات (قطعة شاش أبيض) تركها أطباء الاحتلال عندما أجروا له عمليات وهو أسير. ويقول درابيه إن العلاج الذي تقدمه إدارة السجن للأسرى المرضى "فاشل 100 بالمئة".
وتفيد إحصاءات حقوقية بأن عدد شهداء الحركة الأسيرة، وصل إلى 211 شهيدًا، بينهم 74 قضوا نتيجة القتل العمد، و7 أسرى استشهدوا داخل السجون والمعتقلات بإطلاق النار عليهم مباشرة، و59 بفعل الإهمال الطبي، و71 أسيرًا استشهدوا تحت التعذيب.
يشار إلى أن سلطات الاحتلال تعتقل في سجونها أكثر من 7000 أسير وأسيرة موزعين على أكثر من 20 سجنا منتشرة داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة.