كل الدوامات الدائرية التي يصنعها حجرٌ بسيط في بركةٍ صغيرة تهدأ مع الوقت. يبدأ الأمر بثِقلٍ يحرّك الراكد فيضطّرب، ثم تمضي الدوائر إلى التلاشي نحو المركز ليعود كل شيءٍ مثلما بدأ: هادئ، مستقيمٌ، لا يحمل للمشهدِ التشوّه الذي كان. تلك التوازُنات المطلوبة، بعد إلقاء الحجر، لا تأتي هكذا سريعًا، وربما لا تأتي لكل الخلقِ على قدر المساواة، فالفهمُ والخبرةُ ناتجا التجربة، ولا تكون الحكمةُ إلا بما صنع الزمان.
التجربة التي تَلِدُ والدَها، والحجرُ الذي تنبعث منه في نفسِك الدوّامات، فتثور عليك لتهدأ بعد الاختيار والاختبار. فكم مرة تسأل عن السبيل، وكم مرة عرفت السُبل بعد أن تحركت قدماك؟ نعم، أنت لن تعرف الطريق حتى تختبر الأروقة، فتعرف ما ينفعك وما لا يجب الخوض فيه، ومن هنا يأتي اتزان المُجرِّب الذي بصر النظريات على أرضِها، فعرف أن نجاح الشغف لا يكون دون ممارسة.
وهكذا.. يتزن العقلُ بالقلبِ، وتستيقظ بما أُنير فيه بواعثُ الحكمة، فتكسبك التجربةُ خطأ لا تعود إليه، ويعلّمك الإخفاق أن التجهّزَ أبصر للقلبِ من نيران الغضب، فتنتظر بعد النظر وتتفكّر قبل التحرّك، فإذا استقرّ الميزان غلب العقلُ في موضعِه، وانتصر القلبُ فيما ينبغى فيه الانتصار.
وإنّي أذكرُ قولًا لأحدِهم، عن إنسان ما قبل/بعد التجربة، مفاده أنك لو غفلت عن أهمية الغضب لأجل الظلم المنتشر في العالم وأنت في سن العشرين: فأنت لا قلب لديك، أما إن ظل اعتقادك في الصوابية المطلقة لهذا الاختيار في رفع الظلم بعد الثلاثين: فأنت لا عقل لديك، فيقول الرجل ببساطة أن التجربة تصنع الحكمة من باطن الثورة، والنضج من قالب الاندفاع.
وأحسبُ أن خطواتٍ أربع يحكمن صناعة الإنسان الذي أخذته التجربة بوجهٍ غير الذي أخرجته به. وبيانها كالآتي بإيضاح:
صدق الرغبة:
أن تسلك الطريق بعزم المريد لا هوائية المُجرِّب. فلا تقل: هي تجربة قد تصيب، ولكن اصدق في طلب الصواب تؤجر حتى على خطئك غير المقصود، فإن تختبر الوسيلة بإرادة الراغب في النجاح وعقلية المتحسّب للخطأ، تجتهد بقلب المؤمن حتى يتضح الطريق، وهذا مناط الاجتهاد الذي يؤجر عليه الفقيه –مثلًا- لأنه يصدق البحث عن الحقائق، فيستوثق من دليله بصدق رغبته في البلوغ.
مرونة التراجع وصلابة الثقة:
وهذه من تلك والثانية من الأولى، فمن صدق تواضع لخطئه وحثّ الخُطى للإدراك قبل الفوات، فيسمع من السابقين ويتفاعل بخبرات الغير مع ذاتية التجريب، وهي المرونة التي تحفظ صاحبها من الغرور وأن يعتد بنفسه على جهل، ولكنها تستوجب الموازنة مع الثقة لئلا نعالج الكِبر بالإحجام، ولا تكون الثقة إلا بوضوح النية واستمرار الاستخارة وصدق الاستنصاح.
التجرّد وقت المخالطة:
أن تنظر لما وراء من مكانك، فتسأل: ماذا بعد الآن، ثم ماذا بعد الوصول؟ فتَسترشد بمصير السابقين وتتأمل في حماسة اللاحقين، وأنت في المنتصف تحسب حظوظك مع اعتبار التمايز الفردي ونسبية النجاح بين البشر، فتخرج من تجربتك مرتفعًا إلى السماء، فتنظر بعيني الطائر المُحمّل بخبرات المسير، وترى ما قطعته كيف كان وما تتوقع أن يكون كيف سيكون، وفي يديك المفاتيح الثلاثة: هُدى من سبق، وحماسة من لحق، واستقراءك للأمر بما مرّ.
المعايشة بعد الانقضاء:
الآن وقد لامست خط الوصول وانتهى بك المسير، تجلس على حافة الشاطئ حتى تجفّ الثياب قبل الاستئناف، فالرحلة لا تنقضي والتجارب لا تنتهي حتى ينتهي الحضور، فتَسترجع ما أردته قبل البدء وما تحصّلت عليه بعد القضاء، وتستحضر شعورك الذي خالطك في مراحل السير وخبراتك التي تلقيتها فيه، ثم تضع الميزان بالقسط فتحسب معادلة المرغوب مستقبلًا والمتاح الآن، وتنتبه للفارق بين رغبة الجاهل قبل البداية وإدراك الخبير في النهايات، فتحكم على التجربة بمعايشة الممارس لا انفصال المنقطع. وكذا يتزن الحال وتتضح الأحكام.
هذه هي التجربة كما أراها، والتي ربما نلتقي في رؤيتها وربما لا، وربما نتقاطع ثم نفترق، فكما أن التجارب تختلف فإن رؤاها تتباين وتحليلاتها تتمايز بتمايز الأفهام والإدراك. فلو كان للمرء حق الانتفاع من الموروث الإنساني، فإن واجبه أن يثري العقل البشري والوجدان الإنساني، في مجموعه بقدر ما يستطيع. وما المذكور أعلاه إلا حجر في الماء.