حكى أحد الأنصار أنه خرج يريد النبي صلى الله عليه وسلم، فما أن بلغه حتى وجده مع رجل يحدثه، وظل معه حتى قال الرجل: والله لقد قام رسول الله حتى جعلت أرثي لرسول الله من طول القيام، ولما انصرف الرجل سأله الأنصاري: يا رسول الله! لقد قام بك الرجل حتى جعلت أرثي لك من طول القيام. فسأله صلى الله عليه وسلم: ولقد رأيته؟ فقال الرجل: نعم. فسأله: أتدري من هو؟ قال: لا. فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم: "ذاك جبريل عليه السلام، ما زال يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه"!.
من هذا الحديث ينطلق حديثنا عن النبي بين جيرانه. فهو الذي أوصى أصحابه في خطبة الوداع قائلًا: "أوصيكم بالجار". ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فأخبرنا أنه لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه، وأقسم على ذلك ثلاثا، بل شهد له بالحرمان من الجنة، حتى وإن كان من العبّاد الزهاد الناسكين.
وقد روت السيدة أم سلمة قائلة: بينما أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في لحاف، إذ دخلت شاة لجار لنا، فأخذت قرصة من الخبز لنا، فقمت إليها فأخذتها من بين لحييها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما كان ينبغي لكِ أن تعنفيها، إنه لا قليل من أذى الجار" أي أن أذى الجار لجاره غير مغفور وإن كان قليلًا.
أما عن أصحابه فلا يتسع المقام للحديث عن خلق النبي معهم، ولا يتسع المقام لأي من خصال النبي صلى الله عليه وسلم وغزارة ثمرها، ولكن حسبنا غيض من هذا الفيض، متمثلًا فيما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه حين قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء، فسبّه خالد، أو قال له شيئًا عنيفًا، بلغ ذلك النبي فقال: "لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه". وهذا فيما كان بين خالد وعبد الرحمن، فكيف موقفه إن اعتدى مشرك على أحد أصحابه أو تعرض له؟!
على أن هذه الحمية وهذا الحب لأصحابه لم يكن يظهر في المواقف الفاصلة وحسب، بل إن الأدلة غنية بمقالات النبي لأصحابه التي تشع حبًا ورأفةً؛ فضلًا عن مشاورتهم في كل شأن كبير، كما هو الحال في غزوة بدر وغزوة أحد، وهو الحاكم النبي الذي يأتيه الوحي من السماء، فأي حاكم بعده قد يستغني عن الشورى؟!
خير الناس
في إحدى غزواته مع النبي، يروي لنا الصحابي جابر بن عبد الله أن رسول الله قد نزل في أحد الوديان، فأخذ يستظل بشجرة منفردًا وقد علق سيفه بأحد أغصانها، وما هي حتى باغته رجل من المشركين فسلب سيفه وهو نائم، وواجه النبي به قائلًا: من يمنعك مني؟ فقال النبي: الله، فسقط السيف من يده، فأخذه النبي وقال: من يمنعك مني؟ فقال الأعرابي: كن خير آخذ، فقال النبي: أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: لا، ولكني أعاهدُك أن لا أقاتِلَكَ، ولا أكونَ مع قوم يقاتلونك، فخلّى سبيله، فذهب إلى أصحابه، فقال: قد جئتُكم من عندِ خير الناس.
هكذا كان النبي مع خصومه: خصمًا شريفًا على قوته وحزمه، ومقاتلًا نبيلًا على الرغم من شجاعته وإقدامه على أعدائه، وهو قبل هذا كله كان داعيًا رفيقًا بمن يدعوهم، وغنية عن البيان قصته صلى الله عليه وسلم مع أهل الطائف في أول دعوته. في موقف كهذا، تطوق الأنفس للحظة قصاص، يرسل الله ملك الجبال إلى نبيه يخبره: إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين، أي الجبلين.. فيقول خير الناس: كلا، بل أدعو الله أن يُخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يُشرك به شيئًا.
وفي السيرة نرى في موقف رسول الله صفحًا وصبرًا تلين به قلوب الأجلاف والخصوم وتقربهم إلى الإسلام.
وهذا غيض من فيض، وهو أقل ما يتسع له المقام وأبسط ما نستدل به من آثار المعصوم الكريم الذي وصل الرحم، وصدق الحديث، وحمل الكل، وأكسب المعدوم، وأقرى الضيف، وأعان على نوائب الحق، فصلى الله عليه وسلم في الملأ الأعلى إلى يوم الدين.