مجددًا يبرز التدخل الأمريكي على سطح الأحداث الفلسطينية، فقد شهدت الفترة الأخيرة حراكًا أمريكيًا غير مسبوق، بعد التهميش التام للسلطة لسنوات طويلة من الإدارة الأمريكية الحالية والسابقة، رغم تفانيها بالتعاون مع الاحتلال، بُعيد الحديث عن مخطط أمريكي جديد يهدف لتصفية المقاومة في الضفة وإنهاء التشكيلات العسكرية التي بدأت تنتشر في أرجائها، حيث انطلقت من محافظتي جنين ونابلس، وقد توسعت نطاقها لتشمل أغلب مدنها وقراها ومخيماتها، كانت آخرها ظهور كتيبة أريحا وقد قدمت خمسة شهداء عقب الحصار والاجتياح الإسرائيلي الأخير بارتكاب مجزرة بشعة يندى لها الجبين.
فالنظرة الأمريكية لمجمل الأوضاع المتصاعدة في الأراضي الفلسطينية المحتلة باختصار تتمثل في "هدوء مقابل وعود"، مثل إعادة فتح القنصلية الأمريكية في القدس، وعلى أن تبقى (إسرائيل) يدها طليقة في الضفة، وعدم وقف التنسيق والتعاون الأمني بين الجانبين، والسؤال المهم، على من يسري؟ هل هو لردع المستوطنين ووقف اعتدائهم على الفلسطيني والعبث بمقدساتهم وممتلكاتهم؟ أم هو لوقف جرائم الاحتلال وتوغلاته في المناطق الفلسطينية كالقتل، والاعتقالات، ونسف بيوت المواطنين، وتنفيذ مشاريع استيطانية على مدار الساعة؟
فقد كشف موقع "أكسيوس" الأمريكي أن وزير الخارجية أنتوني بلينكن "ضغط على رئيس السلطة، لقبول خطة أمنية أمريكية صاغها المنسق الأمني الأمريكي الجنرال مايكل فنزل، لتدريب قوة فلسطينية خاصة لمواجهة المقاومين في الضفة، بحجة استعادة السيطرة على مدينتي نابلس وجنين.
فالإدارة الأمريكية لا تقدم على فعل شيء خاصة فيما يتعلق الأمر بفلسطين إلا بموافقة (إسرائيل)، معنى أن الطرفين متفقان على خطة الجنرال فنزل، ثم سيتم إلزام السلطة القبول بها عملًا بالاتفاق الأمني، حتى وإن كانت قد أبدت تحفّظًا، كما جاء في التقرير، لكنها ستتبناه عاجلًا أم اجلًا، ما دامت تنسق وتتعاون أمنيًا مع الاحتلال على حساب أبناء شعبها.
تذكرنا خطة الجنرال فنزل بخطة زميله الجنرال كيث دايتون، الذي تولّى في عام 2007 مسؤولية تدريب الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة وإعادة تسليحها وفق عقيدة أمنية صارمة تهدف إلى القضاء على المقاومة، وتفكيك بنيتها التحتية في الضفة، وقد راهن على الجيل الفلسطيني الجديد، بالتعايش مع الاحتلال والرضى بالأمر الواقع، لكن الفلسطيني الجديد أثبت عكس ذلك، بصبره على مضض، ولربما كانت الفترة السابقة التي شهدت هدوءًا نوعًا ما كانا فقط للإعداد، ولكن بعد أن "طفح الكيل وفار التنور" نتيجة استفزازات الاحتلال والمستوطنين، فقد أدى هذا إلى انفجار الضفة في وجه السلطة والاحتلال معًا، وأخذ كل طرف يتهم الآخر بتحمل مسؤولية تبعات ذلك التصعيد، والسؤال المحير هو: من بمقدوره إرجاع الأمور إلى سابق عهدها؟
فالمقاومة فاجأت الاحتلال، وأربكت كل حساباته، لعدم درايته بسقوط نظرية دايتون، بدليل أن من يخوض المقاومة التي انطلقت هذه المرة بقوة السلاح، وليس كعادتها باللجوء إلى طرق المقاومة التقليدية السابقة، هم من الجيل الجديد غير المعروف لدى سلطات الاحتلال، كون أغلبهم لا ينتمون لتنظيم معين، الأمر الذي دفع بنتنياهو لطلب النجدة من الأمريكان، الذين هرعوا إلى المنطقة حاملين خططًا أمنية عنوانها الرئيس “القضاء على المقاومة”.
إن كل هذه الخطط الأمنية لم تهدف إرجاع الهيبة للسلطة، التي تآكلت في الفترة الأخيرة، والحقيقة أنها تتعاون على قدم وساق مع الاحتلال، بدليل حملات الاعتقالات التي تشنها ضد المحررين والطلاب والأساتذة، وإنما لإرجاع الأمن المفقود في الضفة والخشية كل الخشية من اندلاع الانتفاضة المسلحة، وحينها ستسقط كل النظريات الأمنية برمتها، وقبل الوصول إلى هذا السيناريو، يبدو أن الإدارة الأمريكية أدركت “مربط الفرس”، لذا هي الآن تمارس ضغوطات على العواصم العرببة للتوسط مع فصائل المقاومة من أجل طلب التهدئة، ويأتي إنتقال التركيز على الوساطة الخارجية، بعد ضمان وضع السلطة في “بوز المدفع”، لتصبح مقاولًا تنفيذيًّا لدى الاحتلال لمواجهة المقاومة من أجل توفير الأمن للإسرائيليين، وهنا على السلطة اختيار أحد الأَمَرَّين: فإما أنها ستتورط في مستنقع الحرب الأهلية، وإما سيؤدي بها المطاف في النهاية إلى كنسها، بتكرار مشهد غزة في الضفة، ولم يترحم عليها أحدًا.