فلسطين أون لاين

قتله قناصو الاحتلال أمام أبنائه وزوجته

المعلم جواد بواقنة.. شهيدٌ يسعفُ شهيدًا

...
جنين-غزة/ يحيى اليعقوبي:

"بملامح متوهجة أصبحت أكثر ضياءً من نور القمر"، هكذا عبّر نجل جواد بواقنة (58 عامًا) عن انبهاره بإطلالة والده لحظة عودته إلى البيت بمخيم جنين شمال الضفة الغربية مساء الأربعاء (19 يناير) بعدما أدى صلاة المغرب وفرغ من "صالون الحلاقة".

لم يخفِ عن أبنائه ما يشغل تفكيره: "رأيتُ أدهم جبارين" لم يكن هذا ما يريد قوله فقط: "كان ينظر إليّ بنظرات غريبة خلال مسيره بسيارته من أمام البيت"، قاطعه ابنه فريد: "أدهم معروف شاب شهم وصاحب أخلاق حسنةً بالمخيم"، لكن الدهشة أحكمت سيطرتها على ملامح الوالد، الذي وضع علامة استفهام بقيت بلا إجابة: "ليس بيني وبين أدهم أي شيء، فلماذا نظر إليّ هكذا!؟" لأنه لم يجد تفسيرًا لتلك "النظرة الغريبة".

على مائدة العشاء، اجتمع بواقنة مع بناته سجى وآلاء وابنه فريد وزوجته، لم يخلُ الاجتماع من توجيهات الأب لأفراد الأسرة ونصائحه المعتادة لهم موصيًا إياهم بالتسامح مع الناس ومساعدة الآخرين، وهي صفات امتاز بها، كانت الفرحة تغمر قلبه: "هذه أجمل ليلة في حياتي" لأنه عقد النية على أداء العمرة في فبراير/ شباط القادم.

التقط بواقنة وهو معلم للتربية الرياضية منذ 34 عامًا صورتين له، ثم صعد مع ابنه فريد لسطح المنزل، يحدث ابنته المتواجدة في رام الله للدراسة بجامعة بيرزيت عبر تطبيق "ماسنجر"، يلف بكاميرا هاتفه في الفضاء الواسع أمامه ينقل صورة الهدوء في المكان ولم يدرِ أن عاصفةً قادمةً إليه، وقال متباهيًا بوجوده على السطح: "شايفة أنا قريب على السما".

3 رصاصات

الثالثة فجرًا، أصوات ثلاث طلقات ثقيلة كسرت حالة السكون السائدة، بعد توغل عشرات الآليات من قوات الاحتلال للمخيم ووقوع اشتباكات مع المقاومين.

اقرأ أيضاً: جموع غفيرة تشارك في تشييع شهيدَي جنين

جميع أفراد المنزل استيقظوا على صوت الرصاص ونداءات استغاثة "إسعاف، إسعاف" تبعها صرخات مصاب أسفل المنزل، نزل بواقنة الأب، وابنته آلاء أولًا، ولحقهم بالخلف أبناؤه: فريد وسجى وزوجته الذين احتموا في "كراج سيارتهم".

تقدمت "آلاء" غير آبهة بالثمن الذي يمكن أن تدفعه وسحبت المصاب من يده للخلف لمسافة أربعة أمتار، تغامر تتعالى على مخاوفها وتتجاهل وجود قناصة الاحتلال التي تراقب تحركها.

لم تستطِع مواصلة سحبه، فتقدم والدها وأمسك بيده محاولًا جرّه للخلف لإسعافه، لتنهال عليه عدة رصاصات قناصة أصابت ثلاثة منها الصدر والقلب والخاصرة، لم يعلم أن المصاب هو أدهم جبارين الذي رآه قبل ساعات واستغرب من تلك "النظرة الغريبة".

"صرخت عندما سقط والدي للخلف وارتطم رأسه بعتبة باب البيت، وبدأنا بسحبه للخلف، كان وميض الرصاص الثقيل المنطلق نحونا يشعرنا أنه سيتم استهدافنا، كنا نسمع صوت الرصاص يرتطم بالأشجار وحجارة المنزل والأبواب الحديدية" يستمع مراسل صحيفة "فلسطين" للحظات مرعبة رواها ابنه فريد.

غامرت "آلاء" في المرة الأولى لإسعاف مصاب لم تعرفه، وامتلكت شجاعة أكبر لإسعاف والدها المصاب بعد أن حملوه ووضعوه في السيارة، رغم أن مركبة الإسعاف لا تبعد سوى عدة أمتار عنهم، منعتها قوات الاحتلال من التحرك ونقل المصابين.

سجى التي كانت شاهدة تعيد رسم صورة أخرى للحدث لصحيفة "فلسطين": "اضطررنا لحمل أبي، وساعدنا مسعف استطاع الوصول إلينا، وقادت شقيقتي السيارة، وعندما تحركت باتجاه مستشفى ابن سينا تعرضت لإطلاق نار من قناصة الاحتلال لكنها واصلت طريقها".

قطع الاحتلال التيار الكهربائي والانترنت عن المخيم لحظة الاقتحام، وظلت سجى وأمها وشقيقها فريد يتقاسمون ألم لحظات قاسية عاشوها وكانوا قريبين من الموت جميعًا، عندما قطعوا اجتماعهم وهرعوا جميعًا للأسفل، ليعيشوا على وقع صدمة استشهاد والدهم أمامهم، وبين أيديهم وأحضانهم، سمعوا شهقات روحه الأخيرة وهم يلقنوه الشهادة.

الأب الصديق

"فقدت أبًا كنت أعده صديقًا، عرفت أشياء كثيرة عنه بعد استشهاده وليس قبلها من شدة حب الناس له، كان خدومًا معطاءً منتميا للمخيم والوطن، لا يوجد عرس أو عزاء إلا وشارك فيه، يشارك في الصلح بين الناس" تخرج الكلمات من قلب ابنه فريد المثقل بوجع الفقد.

أمضى الشهيد 34 عامًا معلمًا لمادة التربية الرياضية، تتلمذ على يديه معظم شباب المخيم، كان مقررًا أن يتقاعد بعد عامين، لديه 6 أبناء (2 ذكور و4 بنات)، كانت علاقته بالطلاب أبعد من مجرد طالب وأستاذ، "يعدهم أبناءه، خلال الاقتحامات كان يغلق باب المدرسة خوفًا عليهم، وإذا خرج أحد الطلاب يلاحقه ويحضره. يستمع إليهم ويحل مشاكلهم " تقول ابنته سجى.

تجاوزت أنشطة المعلم اللامنهجية حدود أسوار المدرسة، فكان ينظم أنشطة كشفية لأبناء المخيم، كان يشارك في مناسبات الأفراح والأحزان في جنين، ويساهم في الصلح الاجتماعي وحل المشاكل، ما أكسبه حب الناس له.

داخل المنزل لم يكن أيضًا مجرد أبٍ، يملأ الفخر صوته ابنته "كان أخًا وحبيبًا وصديقًا ثم أبًا، دللنا، وعلمنا كلنا، عن نفسي درسني مرتين بالجامعة في تخصصي دراسات وعلوم مالية، ودراسات قانون، أعطاني حرية الاختيار وكذلك إخوتي، لم يفرض رأيه علينا وإن اختلفنا يعالج الأمر بالإقناع وليس بالإجبار".

من طفولة تجرع فيها اليتم مبكرًا، عاش بواقنة مرحلة صعبة بعد وفاة والده حينما كان عمره ست سنوات، وحرم حنان الأبوة، إضافة إلى أنه كان الولد الوحيد على ثلاث شقيقات، اثنتان منهن تسكنان في عمان.

"مش سهل أنه تعيش لحالك، لكن كان عنده إيمان أنه ربنا مش راح يتركه" كلمات ممزوجة بحب كبير تخبئها داخل قلبها لوالدها، تصف لحظة استشهاده بأنها لـ"ليلة جبر الخاطر من الله له بهذا الاصطفاء".

لم تشعر ابنته وأشقاؤها أنهم وحدهم خلال مراسم العزاء، فقد التف المخيم كله حولهم، تقول: "شعرت أن كل المخيم هم أعمامنا وأهلنا، شعرت بمدى حبهم لأبي، كل الناس وقفت معنا، في وقت كان يشعر أبي أنه وحيد، لكن الله أراه حجم محبة الناس له، هذه كرامة له".

تفتح قلبها لتلعن المحتل ألف مرةٍ "يقتحمون جنين؛ لا يرون أحدًا، ليست المرة الأولى التي يطلقون النار تجاه بيتنا، كل فترة نغير نوافذنا ونحن نعيش على صوت الرعب والرصاص، قتلوا الصحافية شيرين أبو عاقلة، واليوم قتلوا أبي وهو يحاول إسعاف مصاب، رأيناه يموت بين أيدينا، لم نقصر معه، شقيقتي خاطرت بحياتها، والحمد لله".

انتمى المعلم بواقنة للمخيم، ورفض الخروج والسكن خارجه، يحضر ذاكرة ابنته مشاهد من هذا التمسك والتجذر "عندما يسأله أحدهم، "ليش ما تطلع من المخيم!؟" كان يقول: "بدي أموت بالمخيم ومن عتبة الباب للقبر".