كنت في الثالثة عشرة من عمري حين جلست خلف بيتنا شعثاء الشعر حافية القدمين ألهو مع أخواتي، لفت انتباهي زامور سيارة وأصوات غريبة شرعت تصخب أمام بيتا، ميزت من بينها صوت أبي يمطر القادمين بعبارات الاستقبال والترحيب.. وما هي إلا لحظات حتى تناهى إلى سمعي صوت الملاعق تقرع أكواب الشاي. نادتني أمي مضطربة، وساقتني من يدي إلى الحمام، غسَّلتني، وألبستني الفستان الوحيد الذي أرتديه في الأعياد والمناسبات أو حين أذهب لأي سبب إلى المدينة، ومشطت شعري وضمته كذيل الحصان في مؤخرة رأسي.. ألححت عليها خلال ذلك بأسئلة عدة:
-لماذا تغسلينني فالوقت ليس ليلًا، ولن أذهب للفراش بعد قليل؟ وما مناسبة ارتداء الفستان الآن فالعيد بعيد، ولا أظنني سأذهب للمدينة؟ ومن هؤلاء الغرباء؟ وماذا يريدون منا؟.
رأيت في عينيها نظرة بؤس، ولكنها لم تجبني على أيٍ منها.
وما هي إلا دقائق معدودة حتى علا صوت أبي مناديًا "أم أحمد، تعالي أنت والبنت"، أمسكت أمي بيدي، وأدخلتني إلى حيث يجلس الضيوف، دخلت بخطوات متعثرة لشدة خجلي وحيرتي.. من هؤلاء؟ وما دخلي أنا بهم؟ وجدت في الغرفة كهلًا سمينًا يرتدي عباءة سوداء مذهبة، يغطي رأسه بعمامة بيضاء، أبيض البشرة تبدو عليه آثار النعمة، وجلس آخر إلى جانبه طويل القامة نحيل الجسد أسمر الوجه تبرز عظام وجنتيه بوضوح. ما إن دخلت الغرفة حتى انغرس نظر الرجلان الغريبان في وجهي.. قطرت حبات الغرق من جبيني وجلًا وخجلًا، بينما نهض الكهل أبيض البشرة مقتربًا مني قائلًا:
-ما شاء الله، مثل فلقة القمر.
طلب مني والدي الخروج بعد هذه الكلمة ونبرة صوته تفيض بالأنفة.
-بالله عليكم، أخبروني ماذا يجري.
-اصبري قليلًا، وسيتضح كل شيء.. عدت لألعب مع أخواتي في حوش البيت حين شاهدت سيارة الغرباء تتحرك مغادرة.
وما هي إلا أيام قلائل، وجدت نفسي بعدها أرتحل عن البيت إلى جهة لا أعلمها، بعد استعدادات جعلتني أُلقي طفولتي جانبًا وأبدو كامرأة يافعة، وورقة طُلب إلي أن أذيلها ببصمتي. ارتحلت برفقة رجل غريب قيل لي إنه زوجي منذ هذه اللحظة.. رأيت دمعة تفر من عيني أمي جاهدت نفسها لتخفيها. وشاهدت والدي يتسلم رزمة من المال غير تلك العملة التي نتعامل بها في بلدي.. أما أنا فالحيرة تملكتني ولا أفهم ماذا يجري.
جلست في السيارة خائفة مترددة تسيطر على نفسي مشاعر لم آلفها. وبعد مسير طويل امتد لساعتين، وصلت لمبنى كبير لم أرَ مثله سابقًا، سمعتهم يقولون عنه "الفندق"، دون أن أدري ماذا يكون، اقتادني الرجل من ذراعي، وأدخلني إلى غرفة أوصد بابها من الداخل، قدم لي طعامًا منعني الخوف والحياء من تناوله، خاصة وأنا أشاهد عينيه لا تتحولان عن وجهي..
ثم أخذ يجردني من طفولتي بنهم، مر على تضاريس جسدي بجوع معتق، ثلاثة أسابيع قضيتها برفقته على الحال نفسه، صباح مساء.. لم أرَ خلالها ضوء الشمس ولا نور النهار.. الستائر مسدلة، والباب موصد، ولا أحتك ببشر غيره، ويحرص كل يوم مساءً على إعطائي قرصًا من الدواء، عارضت أخذه فأنا لست مريضة، ولكنه قال لي: هذا ضروري لك.
أعادني بعدها إلى القرية منهكة حتى آخر رمق.. وارتحل تاركًا لي ورقة علمت أن فيها فكاكي منه، ورزمة أخرى من المال، وصرة فيها بعض الثياب الثمينة.
ما هذا يا أبي؟ كيف تسلمني لذلك الرجل يفعل بي ما يشاء؟ كيف تقبل يا أبي بما جرى لي؟
ماذا نفعل يا ابنتي، أنت تعلمين أننا فقراء، بل معدمون، ولا نملك ثمن الدواء لأمك، لهذا اضطررت إلى تزويجك لهذا الرجل العربي.
صمتُّ وخضعت لإرادة والدي، فلا بد من ذلك لإنقاذ أمي وعائلتي. لم أعد إلى القرية طفلة بريئة كما خرجت منها، لم أعد للعب مع أخواتي، ربما لأني شعرت وكأنني كبرت فجأة، وربما لأنني شعرت بي دنسة لا يليق بها أن تلوث بقية فتيات العائلة.
غدا هذا الزواج المؤقت مهنة دفعني والدي إلى احترافها، وممارستها في كل صيف تحت غطاء الحاجة، كرهت نفسي، وكرهت أسرتي، وأضحيت أرى جمالي لعنة تصب فوق رأسي استعبادًا في زمن يقال عنه إنه لم يعد فيه رق أو عبيد.