منذ أيام الاحتلال الأولى للأراضي الفلسطينية، دأب على جمع الفلسطينيين في الأحياء والقرى والمخيمات، ويختار من بينهم أعدادًا من الشبان على أساس الاشتباه بأنهم نشطاء في المنظمات المسلحة، فيعتقلهم، ثم يبعدهم، وقد رحّل بهذه الطريقة عشرات آلاف الفلسطينيين في عمليات متقاربة ومتباعدة زمنياً، حتى إن أول تقرير كان يودّ "ليفي أشكول" رئيس الوزراء البائد أن يراه على مكتبه كل صباح هو عدد المبعدين الفلسطينيين إلى الضفة الشرقية لنهر الأردن.
لم يعد سرّاً أن الإبعاد إجراء سياسي ليس بالضرورة له علاقة بالأمن، ويهدف الاحتلال من استخدامه إلى نشر جوّ من الإرهاب لإجبار الفلسطينيين على الإذعان لأوامره، والقضاء على قياداتهم المحلية، ولذلك تبنت سلطات الاحتلال هذه السياسة مستندة إلى أنظمة الطوارئ البريطانية، حتى زاد العدد الإجمالي للمبعدين الفلسطينيين بين عامي 1967-1993 على 2360 مبعدًا.
وفي مثل هذه الأيام الباردة من ديسمبر 1992 نفذ الاحتلال حملة إبعاد جماعية طالت أكثر من أربعمائة من كوادر وقادة المقاومة، بزعم أنهم محرضون في مناطقهم، ويهددون بنشاطاتهم حياة المستوطنين، مع العلم أن القرار صدر بإبعادهم دفعة واحدة، ولم يصدر أمر إبعاد شخصي لأي منهم، وفي هذا مخالفة كبيرة، ولا سيما أننا أمام أكبر عملية إبعاد جماعي ضد الفلسطينيين منذ بدء الاحتلال إلى الأراضي اللبنانية، دون السماح بالاستئناف أمام المحكمة العليا.
لقد جاء هذا القرار الفجائي كردة فعل انتقامية لعملية فدائية استهدفت ضابطًا في جيش الاحتلال، بجانب أبعاده السياسية الواضحة التي حاول الاحتلال بها تجسيد سياسة العقاب الجماعي ضد عموم الفلسطينيين، متوهمًا أنه بواسطتها سيضعف المقاومة، بزعم أن الإبعاد يفقدها الكثير من قادتها، ويخرجهم من دائرة الاتصال بقواعدها، ويخلق فراغًا قياديًّا كبيرا داخل دوائر عملها، ويفقدها القدرة على إجراء المشاورات اللازمة، ويوجد رادعًا نفسيًّا لهم، لأن الإبعاد يعد عقوبة قصوى، ويمثل تهديدا لكل من يراه الاحتلال مخالفا أمنيا، وخطرا على وجوده.
فضلا عما تقدم، ودون الخوض في حيثيات المواقف التي أعرب عنها وزراء الاحتلال في معرض دفاعهم عن قرار الإبعاد، وتسويغهم له، فإنه يبدو صعبا القفز عن وجود إجماع لدى الاحتلال بأن القرار الذي يوجه ضربة مؤلمة للمقاومة، هو في صالح عملية التسوية و"المعتدلين" الفلسطينيين في المناطق المحتلة وخارجها، بجانب كونه تجاوبا مع المزاج العام في أوساط الجمهور الإسرائيلي، المصاب بالإحباط والهستيريا من جراء التصعيد المتواصل في عمليات المقاومة.
انقضى إبعاد مرج الزهور، وعاد المبعدون إلى فلسطين، رغم أنف الاحتلال، بعد أن سجلوا ملحمة في الصمود والتحدي، ورغم مرور ثلاثة عقود على هذا الفصل المشرف من تاريخ القضية، فما زال الاحتلال تراوده فكرة الترانسفير والإبعاد والنفي، وإن بوسائل وأشكال أخرى.