دأب قادة الاحتلال على ترديد عبارة لا يعرف قائلها بأنه "لكل دولة في العالم جيش يحميها، إلا (إسرائيل)، فهي جيش، وله دولة"، ما أعلى مكانته بين سواه من مؤسسات الكيان: الأمنية والسياسية والدستورية، بزعم أن الدولة تواجه تهديدًا وجوديًّا، وليس سوى الجيش قادرًا على التصدي له، وجعله بمنأى عن حالة الاستقطاب السياسي والخلافات الداخلية طوال عقودٍ مضت.
لكن الذي شهدته دولة الاحتلال في الآونة الأخيرة، شكَّل كسرًا للقاعدة التي حكمت علاقة الجيش بالدولة والمجتمع منذ نشأتها، إذ أصبح عرضة للهجمات المتبادلة بين اليمين واليسار، ولئن كان الأخير من المنظمات الحقوقية التابعة له يوجه منذ سنوات انتقاداته لأداء الجيش ضد الفلسطينيين، بسبب ارتكابه انتهاكات وجرائم حرب، ولا سيما في انتفاضتي الحجارة والأقصى، فإن الجديد فيما يتعرض له الجيش من معسكر اليمين الفاشي، الذي فاز لتوِّه في الانتخابات، الزعم أنه لا يقوم بما فيه الكفاية للتصدي لعمليات المقاومة، ويطالبه بمزيد من القمع والإجرام ضد الفلسطينيين.
ولئن كان الجيش يواجه جملة من التحديات الأمنية المنتشرة على خمس جبهات، بعضها متوترة، والأخرى مشتعلة، سواء في الضفة الغربية وقطاع غزة ولبنان وسوريا وإيران، فإنني لا أبالغ إن عددتُ أن أكثر الساحات إثارةً لقلق الاحتلال هي الساحة السادسة المتمثلة فيما يواجه الجيش من تراشق داخلي بين الإسرائيليين، بمختلف معسكراتهم الحزبية والأيديولوجية.
بتعبير أدق، فإن الهجوم متعدد المستويات للمجتمع الإسرائيلي على الجيش، قد لا يكون سوى "غيض من فيض"، وفق بعض التوصيفات الإسرائيلية، ولا سيما أن ذلك يتزامن مع سلوك الوزير المعين للأمن القومي إيتمار بن غفير، الذي يرى إسرائيليون آخرون تنامي انتقاداته للجيش أنها ليست أكثر من "قمة جبل الجليد"، ويكمن تحتها جبل جليدي هائل يعرض دولة الاحتلال للخطر أكثر من أي جبهة معادية، لأنه يكشف عن فجوة بين المجتمع والجيش الذي أُسِّس من أجل حمايته.
لا تتردد الأوساط الأمنية والعسكرية الإسرائيلية في الحديث عن أن مثل هذه الهجمات الحزبية والسياسية على مؤسسة الجيش، تنذر بانفجار الوضع الداخلي الإسرائيلي، وصولًا إلى تفككه، وربما انهياره في نظرة بعيدة المدى، على أساس أن الهجمات المتبادلة بين اليسار واليمين على الجيش تحوِّل الساحة الإسرائيلية الداخلية إلى ما يشبه الفوضى.
تصل ذروة التخوفات الإسرائيلية من هذه الظاهرة إلى كونها تصيب الردع الداخلي بحالة من التصدُّع، وتسميم الأجواء، ومع مرور الوقت فقدان الانتماء للمؤسسة العسكرية، بسبب حالة الغضب التي تنتاب العديد من الإسرائيليين من مسلكيات الجيش، وفق الموقفين المتعارضين في الحلبة السياسية والحزبية، ما سيتسبب في إضعافه، والتهديد بتمزيقه.