استمرارًا لإحياء الذكرى السنوية الخامسة والثلاثين لاندلاع انتفاضة الحجارة، وبعد أن تناولت سطور الأمس السلوك العسكري الإسرائيلي تجاهها، فإن سطور اليوم تناقش السلوك السياسي منطلقًا من المأزق الخانق الذي دخله الاحتلال، وظهر أنها مجابهة بين اليأس الفلسطيني والخوف الإسرائيلي، وألقت ضوءًا جديدًا على مأزق هذا الكيان المصطنع.
لقد انتهج الاحتلال سلوكًا سياسيًّا تجاه الانتفاضة سار جنبًا إلى جنب مع السلوك العسكري الميداني، وتمثل هاجسه في خفض مستوى "العنف"، والتوصل للهدوء، وربما أتى ليشكل الجزرة التي أخفت من ورائها العصا التي أعلنها الجيش وطبّقها، وأوجد انطباعا بحدوث تغيير ما في التعامل مع الانتفاضة والمقاومة.
كما أعلنت حكومة الاحتلال مرارا "مبادرتها" السياسية، لاسيما على لسان رئيس الوزراء شامير الذي تمسك باتفاقيات كامب ديفيد حلا نهائيا للقضية الفلسطينية، ومثل الحكم الذاتي خيارا وحيدا أمام الفلسطينيين، وإجراء انتخابات بشأن الإدارة الذاتية بديلا عن الحكم العسكري، ويعاد نشر القوات الإسرائيلية بمناطق معينة من الضفة وغزة، ومع إقامة السلطة الذاتية تبدأ مرحلة انتقالية لخمس سنوات، ثم إجراء مفاوضات تحدد الوضع النهائي في الأراضي المحتلة.
وفيما تفاجأ الاحتلال باندلاع الانتفاضة، فقد بدت مؤسسته السياسية الحاكمة منقسمة وعاجزة عن اتخاذ قرار أو موقف موحد بشأنها، مما دفع بوسائل الإعلام لأن تؤكد أنه "بينما يمتلك الفلسطينيون استراتيجية جديدة موحدة، فإننا لا نملك أي رد عليها من قبل الجيش والأجهزة الأمنية والجهاز السياسي برمته".
لقد ظهر إصرار إسرائيلي واضح خلال سنوات الانتفاضة على إخفاء اليد التي تحمل أي أوراق سياسية حقيقية، وظهرت اليد الأخرى حاملة العصا، وكأنه لا شيء غيرها بحوزتها تقدمه للشعب المنتفض، لكن هذه المرة بوسائل أشد، وبصورة أكثر قسوة، وبإيحاء أن الاحتلال قادر على كسر النواة الصلبة، وبطرق جديدة لعزلها، كما ورد في توعدات رابين للانتفاضة، وكأنه يقول أقواله نفسها التي قالها في بدايتها: "من يتعب أولاً"؟
أسفرت الخطوات السياسية الإسرائيلية الفاشلة تجاه الانتفاضة عن ظواهر جديدة غير مسبوقة، مثل ازدياد وتضاعف عملية الشرخ والانقسام فيما سمي "الإجماع القومي" حول الاحتلال والضم والاستيطان، وزيادة الإرباك والتشويش التي واجهت الحكومة، وتعمق الشرخ الإسرائيلي مع المستوطنين في الضفة والقطاع، والمساهمة بدخول الجيش للحلبة السياسية، وهو ما خشيته المؤسسة الحزبية.
كما خرجت دعوات إسرائيلية مطالبة بوضع حد للاحتلال، وإجراء الحوار مع الفلسطينيين، ومنها "هناك حد، والسلام الآن، والكتّاب العبريين، والأطباء النفسيين، ونساء بالسواد، وكاحل، والطوائف اليهودية، وخط أحمر، وخارطة السلام، وخيمة حوار"، وجميعها طالبت بوقف السيطرة على الفلسطينيين بالقوة، لأنها تعرض دولة الاحتلال للخطر، لاسيما وأن المواجهات الدائرة في الأراضي المحتلة أسفرت عن انتشار ظواهر لأزمات عديدة داخلها.